عبد الرحمن الأبنودي.. «أول شاعر عامية مليونير في مصر!» ولكن هناك أشياء أخرى
مشيت على الأشواك
وجيت لأحبابك
لا عرفوا إيه ودّاك
ولا عرفوا ايه جابك
رميت نفسك في حضن
أتاري الحضن حزن
كلمات شهيرة شدى بها العندليب الراحل عبد الحليم حافظ في رائعته (أحضان الحبايب)، لتغدو واحدة من أعذب أغاني الشجن والعتاب، والكلمات لواحد من أبرز شعراء العامية المصريين إن لم يكن أبرزهم، الصعيدي البسيط عميق الثقافة والفكر، «الخال» كما اصطلحوا على تسميته في كل محفل ثقافي.. عبد الرحمن الأبنودي.
ماذا يحكي «الخال» نفسه عن كواليس تأليفه لتحفة شعرية مثل (أحضان الحبايب)؟.. الواقع أن الأمر لم يكن سوى مبارزة بينه وبين العندليب عبد الحليم حافظ، فقد تحداه الأخير لتأليف أغنية شبيهة بأغنيات أفلامه السابقة، ليغيب الأبنودي في حجرته أقل من وقت غناء الأغنية نفسها ثم يتلو عليه ساخرًا مطلعها وسط ضحكات الحضور، بل إن الشاعر الموهوب بالغ في التهكم حين ختم المطلع بجملة (حتى في أحضان الحبايب شوك يا حنفي !).
شاهد القصة كاملة يحكيها الأبنودي:
غضب عبد الحليم بشدة حينها فقد أدرك أن القصيدة ملحمية تستحق الاحترام وطلب من «الخال» تعديل الكلمات ليبدل «أتاري الحضن حزن» بـ«سقاك الحضن حزن» وتكتمل باقي الأبيات بالشكل الذي نعرفه.
كيف كتب الشاعر الراحل هذه الكلمات الحارة المفعمة بالفن لمحض تسلية على سبيل تحدي صديقه؟!، وهل يقلل هذا من قيمة فنه في نظرنا أم يبهرنا أكثر بقدرته الفذة على نحت القوافي من مواضعها حين يريد هو ذلك!
حين تتأمل سيرة الأبنودي، تجده عاشقا للفن الشعري الأصيل، هو عالمه ومملكته وشغله الشاغل، فقد ترك من أجله الوظيفة الحكومية المضمونة كموظف في محكمة قنا الابتدائية، ونزح للقاهرة بحثًا عن فرصة تناسبه، ليقدمه صلاح جاهين للوسط الفني كشاعر غنائي متمكن، وتصدح بأشعاره حناجر مطربين كبار كمحمد قنديل ومحمد رشدي في أوائل الستينات، ليصير الأبنودي أهم من كتب الأغاني بالعامية حتى وفاته لأجيال من المطربين.
هل أكتفى الصعيدي المخلص، بكونه كاتب أغنيات ناجح؟!، الوقائع تثبت لنا العكس، فقد سعى «الخال» لجمع التراث الشعري الذي عشقه صغيرًا في موالد عبد الرحيم القناوي، ثلاثين عامًا كاملة جمع فيها الملحمة الشعرية بالغة الضخامة والتي يعرفها كل عاشق للفلكلور الشعبي باسم «السيرة الهلالية».. رحلة سفر عبر أصقاع الوطن العربي كله وليس فقط مصر، فقد مر بليبيا والسودان والجزائر، متعقبًا أفواه الحكائين في كل مكان زاره بني هلال أبطال الملحمة.
وبخلاف التراث الذي لم يقصر في حقه، لم يغفل «الخال» قضايا وطنه العربي، فقد اعتاد التعبير عن كل واقعة بشعره خاصة الوضع الفلسطيني المتردي الذي عاصره منذ نكسته، كثيرًا ما نظم قصائده لهذا البلد وأوجاعه، حكى عن «أطفال الحجارة» و«قمر يافا» و«دير ياسين» ورثى ناجي العلي، الرسام المناضل الأشهر حال اغتياله.. يكفي ذكر أبيات قليلة من قصيدته «الموت على الأسفلت»:
يا قبر ناجي العلي.. وينك يا قبر
يا قبر معجون بشوط مطلي بصبر
الموت بقرّب عليك.. يرتد خوف
وإذا ما خافشي الموت.. يرتد جبر
استمع للأبنودي يلقي قصيدته بنفسه:
في مصر، لم يتخلص محبيه من غصة في حلوقهم بصدده، إذ كان الأبنودي في نظر بعضهم مواليًا لكل نظام، مخلصًا لسادة كل عصر بشعر المدح والعلاقات الخفية، رغم أن العديد من أشعاره تهتف بالمعارضة والشجب مثل قصيدته «الأحزان العادية» التي عبر فيها عن حال المواطن بكل صراحة:
واحنا ولاد الكلب الشعب..
احنا بتوع الأجمل وطريقه الصعب
والضرب ببوز الجزمه وبسن الكعب
والموت في الحرب
قصة الشاعر المليونير
وحتى أنه اعتُقل في عهد عبد الناصر رغم حبه للأخير، كل هذا لم يقنع معارضيه وما أكثرهم، حتى أحمد فؤاد نجم زميله المخضرم ونظيره في عبقرية الشعر العامي لم يتردد في اتهامه بقسوة كعادته، بل وصفه بـ«الكاذب والمخبر» وتعجب من كونه «أول شاعر عامية مليونير في مصر!».
الطفل الإلهي و«مجلس قيادة السطوح».. مواقف من حياة أحمد فؤاد نجم
الأبنودي والصدام السياسي
اختلف المثقفون كثيرًا حول موقفهم من سياسة «الخال» ورفضه بعضهم كشاعر وإنسان جملة واحدة، ورأى البعض الآخر أن الموقف يزول والزمن يُنسي وتبقى شمعة الموهبة منيرة متأججة.. وهذا ما قاله الكاتب أحمد خالد توفيق عن عبد الرحمن الأبنودي:
«هكذا ندرك أنه شاعر موهوب، لكنه شديد الذكاء وليس (الفاجومي). الفاجومي حسب تعريف أحمد فؤاد نجم هو الجدع المندفع الأحمق الذي يضرب رأسه في الجدار دائما.. هنا ندرك مدى ذكاء الأبنودي.. لقد استطاع دوما أن يبقى على مسافة معقولة من السلطة، فلم يتهمه أحد بأنه من شعراء السلطان، وفي الوقت نفسه لم يصطدم بها إلى درجة أن يقضي حياته في السجن أو يفلس».
بين شبهتي الشعر التجاري والموالاة السياسية عاش الخال الأبنودي ومات.. وفي الشبهة الأولى نجد ردًا قاطعًا منه حين قال: «لقد فصلت تماما في حياتي الأدبية بين كوني شاعرا أكتب بالعامية معبرا عن قضايا وطني، وبين صناعتي في كتابة الأغنية، لقد كنت أكتب الأغنية كي أعيش بما أحصل عليه عبرها من أموال».
كان الغناء والتجارة سبيل الرجل إلى لقمة العيش بصنعته وفنه، بلا ابتذال أو سطحية نقل ثقافة الجنوب لأفواه عبدالحليم ومحمد رشدي وغيرهم.
أما الشبهة الثانية فلم يفندها الخال بإجابة مريحة غير أن بعض خصومه كانوا ليظنوها حتمًا نفاقًا هي الأخرى، وبعد كل هذا يعترف الكل بالأبنودي شاعرًا نابهًا، امتزج فنه بالوعي المصري في كل بيت شعر من تأليفه، وأيقونة جنوبية صميمة أجادت التعبير عن هويتها، ليصير الشاعر العامي الوحيد الذي نال جائزة الدولة التقديرية عن موهبته أولاً وأخيرًا.
جدير بالذكر أن الأبنودي ولد في 11 أبريل 1938، بقرية أبنود الصغيرة في محافظة قنا.. وتوفي الخال في 21 أبريل من العام 2015.