رئيس التحرير أحمد متولي
 ما قبل 52.. الصحافة المصرية حين شهدت أزهى عصور الحرية

ما قبل 52.. الصحافة المصرية حين شهدت أزهى عصور الحرية

في السنوات السابقة على ثورة 1952 كانت مصر دولة ملكية سلطانها يواجه اتهامات بالتعاون مع المحتل الإنجليزي، ومع ذلك اتسمت تلك الحقب بالحرية السياسية التي انعكست آثارها على الصحافة المصرية.

صحف تصدر تلو الأخرى، تهاجم الملكية، تطالب بالاستقلال عن الاحتلال، وتحاسب الملك على كل صغيرة وكبيرة، بلهجة شديدة الحزم والقسوة.

جريدة «المؤيد» و«روز اليوسف» و«اللواء» وغيرها من عشرات الجرائد الحزبية التي تنشر وتقول ما يحلو لها دون رقيب؛  حتى اعتبر البعض أن هذه الفترة هي من أكثر فترات الحريات الصحفية في مصر.. فهل كانت الصورة وردية لهذه الدرجة، مقارنة بالعصور التالية وما يشهده وضع الصحافة وحرية التعبير الآن؟

حرية إطلاق الصحف

البداية كانت بعيدة تعود للعام 1876 عندما صدرت جريدة «الأهرام» على يد الصحفيين اللبنانيين «سليم وبشار تقلا» وبتوصية من جمال الدين الأفغاني.

واجه الأخوان صعوبان مثل عدم إقبال الشعب على الجريدة التي كانت شيئا جديدا عليهم، ثم تعنت الحكومة التي أوقفت إصدارها مرارا.

العدد الأول لجريدة الأهرام

لكن المناخ الفكري والثقافي الذي كانت تعيشه مصر في ذلك الوقت، والاتجاه إلى مقاومة الاستعمار البريطاني؛ جعل العديد من الصحف تتوالى في الظهور؛ منها الصحف الأدبية والعلمية والحربية الموجهة لتثقيف ضباط الجيش، والصحف الحزبية، والصحف التثقيفية والتعليمية مثل «روضة المدارس» والصحف التي صنفت على أنها معارضة مثل «الأهرام» و«المحروسة» و«الوطن».

لم تسلم هذه الصحف من بعض المضايقات، خاصة تلك التي تهاجم الحكومة والاحتلال البريطاني.. مرة بالإنذار، ومرة بتأخير التوزيع وأخيرا بإيقاف الإصدار.

هذا لم يمنع المزيد من الصحف من الظهور، وخاصة تلك التي تحمل نبرة شديدة في المعارضة، وخاصة في تلك السنوات التي سبقت ثورة يوليو 1952.

فجزء كبير من صحافة ذلك الوقت كان يعتمد على مقالات كبار الكتاب الذين شنوا حملات عنيفة ضد القصر والملك شخصيا؛ مثل عباس العقاد وإحسان عبد القدوس.

الرقابة على الصحف لم تكن دائمة ولا تنفذ إلا في الأوقات الحرجة، كالرقابة التي مورست في فترة الحرب العالمية الثانية وعقب حريق القاهرة في يناير 1952.

 أنيس منصور وسهرات الملك

يحكي نيس منصور عن تلك الفترة، فيؤكد بأكثر من وسيلة أنها شهدت حريات صحفية كبيرة، ولم يكن أحد يتعرض للمسائلة.

وإذا عدنا لأرشيف جريدة الأهرام في العام 2006، وتحديدا في العدد التذكاري بمناسبة مرور 130 عاما على صدور الجريدة، يكتب أنيس منصور مقالا بعنوان «صورة قلمية لحرية الصحافة في مصر» ليقارن بين حرية الصحافة في العصور المختلفة.

يقول «منصور» إن الصحافة في عهد الملك فاروق كانت تتمتع بحرية كبيرة، أما في عهد الرئيس جمال عبد الناصر انقلب الوضع؛ كان مقص الرقابة هو الآمر الناهي فيما يكتبه الصحفي.. «امنع هذا‏.‏ اشطب هذا‏.‏ فلان هذا ممنوع من النشر مهما قال».. هكذا يصف «أنيس منصور» بعبارات ساخرة وضع الصحافة آنذاك. «فـفي عهد الرئيس عبد الناصر لم نعرف إلا مقص وسكين الرقيب‏.‏ والرقيب مخلوق غريب يستخدمونه من المكاتب في أروقة دواوين الحكومة‏.‏ ويزودونه بمعلومات يومية‏».

ورغم أن «منصور» يتفاخر بالنقد اللاذع في حق الملك، وحرية التعبير في ذلك الوقت؛ لكنه كان يفعل هذا تحت اسم مستعار.. «كنت أكتب عن فضائح الملك وعلاقاته وغرامياته وسهراته، تحت اسم مستعار هو سيلفانا ماريللي‏.. حتى إن الكاتب حلمي سلام عندما استشهد بحرية الصحافة في مصر، استشهد بالأخبار التي كانت ترسلها ماريللي من إيطاليا!».

إحسان عبد القدوس والأسلحة الفاسدة

عندما يتحدث موقع «فاروق مصر» عن حرية الصحافة، فإنه يشتهد بمقالات الكاتب إحسان عبد القدوس التي هاجم فيها الملك شخصيا.

«عبد القدوس» هو الصحفي الذي أثار القضية الشهيرة المعروفة بالأسلحة الفاسدة والتي قلبت الرأي العام والسياسي على الملك، والتي يقال إنها سبب هزيمة الجيش المصري في حرب «فلسطين 1948».. كانت هذه القضية واحدة من الأسباب الكبيرة التي مهدت لاندلاع ثورة 1952.

يتحدث الكاتب في مقالاته بجريدة «روز اليوسف» عن صفقات مشبوهة بين الملك ورجاله وقادة الجيش، وجهات أوروبية لشراء هذه الأسلحة الفاسدة، فيما يبدو أنها مؤامرة ضد الجنود أو ضد البلد ككل.. ويستغل غضب الضباط والعساكر الذين شعروا أنهم طعنوا من الخلف.

في النهاية يُلقى القبض على «عبد القدوس» بسبب هذه القضية.

لم تكن حرية الصحافة خالصة تماما في ذلك الوقت، فلم تكن تلك المرة الأولى التي يلقى القبض فيها على «عبد القدوس».. في أول عهدة بالصحافة ألقي القبض عليه وأودع في سجن الأجانب بسبب مقالا كتبه بعنوان «هذا الرجل يجب أن يرحل».. وكان يقصد المندوب السامي البريطاني.

لكن المقارنة بين الفترة الملكية وما بعد ثورة يوليو 1952 سنجدها حاضرة بقوة هنا، فرغم سجن «عبد القدوس» بسبب آراءه لكنه لم يتعرض للتعذيب النفسي والبدني في حبسه كما حدث له في عهد «عبد الناصر» حتى عندما أغلقت أنوار الزنزانة حتى لا يقرأ الصحف أو يرسل المقالات من محبسه، ثارت الدنيا وتم الرجوع عن هذا القرار؛ وذلك وفقا لموقع «فاروق مصر».

العقاد والعيب في الذات الملكية

«هذا المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس فى البلاد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته».. كلمات صدرت من المفكر عباس محمود العقاد أمام مجلس النواب المصري، عندما كان عضوا فيه عن حزب الوفد.. قال العقاد هذه الكلمات  بعد إعلان الملك فؤاد تعطيل دستور 1923.

حملة عنيفة شنها العقاد بقلمه ضد الملك والحكومة في جريدة «المؤيد». كانت المقالات ثورية تحرض على التخلص من حكم الملك وأسرة محمد علي بأكملها.

في النهاية اعتقل «العقاد» بتهمة «العيب في الذات الملكية» وحكم عليه بالسجن تسعة أشهر حبسًا مخففًا.

وبموجب المادة «156» من قانون العقوبات، كانت هناك مادة مخصصة للعيب في الذات الملكية.

القانون في البداية كان يجرم الهجوم الصريح في حق الملك، لكن مع قدوم العام 1945 تم تعديل هذه المادة لتشمل الهجوم بمجرد التلميح إلى الذات الملكية دون ذكرها صراحة

لكن هناك من يرى أن ما كان يحدث من صدام بين السلطة والصحافة فيما قبل ثورة 1952 لا يقارن بما حدث بعد الثورة. يقول «أنيس منصور» في مقاله بالأهرام «ما كان يكتبه إحسان عبد القدوس كان يستحق عليه الحبس كل ساعة، لكنه كان يكتب وينشر».

حرية الصحافة بعد ثورة يوليو

منذ ثورة يوليو وحرية التعبير تتعرض لقيود تتصاعد مقارنة بما سبق. فعندما جاء العام 1960 أصدر عبد الناصر قرارار بتأميم الصحف الكبرى مثل الأهرام وأخبار اليوم والهلال، وتحويل ملكيتها إلى الاتحاد القومي.

معنى هذا القرار أنه إصدار الصحف أصبح متوقفا على موافقة الاتحاد القومي، ولم تعد ممارسة مهنة الصحافة حقا مشروعا إلا لمن يوافق عليه الاتحاد.

الصحافة التي كان لها دورا رئيسيا في التمهيد لثورة يوليو، عاد عبد الناصر ليصفها بأنها تحدث الكثير من «البلبلة».

ويقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الدكتور محمد كمال في  حديث سابق لـ«شبابيك» إن فكرة التأميم نابعة من الفكر الاشتراكي السائد في فترة الستينيات، وكانت متوافقة مع ظروف العصر والمرحلة التي ظهرت فيها، فقد رأى عبد الناصر أن الرقابة على الصحف ستصب في مصلحة الثورة، فلن يكون هناك تنوع فكري أو آراء معارضة.

وفي فترة الرئيس أنور السادات بدأ يعلن عن احترامه لحرية الصحافة حتى جاء العام 1981 عندما حدثت صدامات بينه وبني الصحافة الحزبية، وبدأت موجة اعتقالات في حق الصحفيين.

وعادت الصحافة لتشم أنفاسها قليلا في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وظهرت الكثير من الصحف المعارضة، خصوصا في السنوات الأخيرة التي مهدت لثورة 25 يناير 2001، غير أن هذه السنوات الأخيرة اتسمت بالتضييق على الصحفيين. 

وأخيرا، ووفقا لتقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» لعام 2017  جاءت مصر في المرتبة 161 لحرية الصحافة وأمن الصحفيين  ضمن 180 دولة. 

ووصف التقرير مصر بأنها تنضم هذا العام لقائمة «سجون الصحفيين».

أميرة عبد الرازق

أميرة عبد الرازق

محررة صحفية ومترجمة مصرية مهتمة بشؤون التعليم واللغات وريادة الأعمال