هذه حكاية الأرمن في مصر.. من المذبحة إلى إثراء المجتمع
الأرمن في مصر، جزء من نسيج مجتمع متعدد، منهم الوزير والطبيب والصانع والمعلم، يعود وجودهم في مصر إلى قبل قرن وربع من الزمان، عندما هربوا من المذابح والإبادة والتطهير العرقي في أرمينيا تحت الحكم العثماني؛ لكن ما هي حكاياتهم في مصر؟ وماذا يفعلون ويعملون حاليا؟
من الأرمن مشاهير في مصر مثل «لبلبة» و«فيروز» ورسام الكاريكاتير «ألكسندر صاروخان»، وأساتذة جامعات وأطباء، وأصحاب أعمال، وقد تتعامل معهم يوميا، ولا تدرك بسهولة أصلهم الأرمني.
عميد كلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان، الدكتور جورج نوبار يقول: «احنا مصريين أرمن، مش أرمن مصريين». ويوضح: «ولدت في مصر، وأنا مصري الثقافة والهوية، وخدمت في الجيش؛ ووالد جدي هو من جاء إلى مصر هربا من الإبادة والمذبحة التي حدثت للأرمن عام 1915».
يؤكد «نوبار»: «نحن ننتمي إلى مصر 100% وننتمي إلى هويتنا الأرمنية التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا. فمثلا لو مصر بتلاعب أرمينيا في ماتش كورة أكيد هشجع مصر، لأني منتمي لمصر ولنواديها».
لقد أحب الأرمن مصر، هذا هو السبب الذي يراه كلية عميد الفنون التطبيقية وراء قدرتهم على الاندماج في المجتمع. يقول: «لأن مصر احترمت رغبتهم في الحفاظ على هويتهم؛ وتركت لهم حرية إنشاء الكنائس الأرمنية والمدارس، والنوادي الثقافية، والجمعيات الخيرية».
من هم الأرمن؟ وكيف كانت حياتهم في مصر؟
ثقافة من نوع خاص
يقول الباحث التاريخي بكلية الآداب جامعة المنصورة الدكتور علي ثابت إن: «الأرمن مصريون لهم تراث خاص، ويحرصون على إبراز ثقافتهم، ولديهم الكثير من المشروعات الثقافية التي تخدم هذا الهدف».
لدى الأرمن 52 ناديا ثقافيا بالقاهرة والأسكندرية، مثل نادي «هوسابير» الثقافي بمصر الجديدة و«نادى الفن الأرمني» بوسط البلد، ونادي «ديكران يرجات» بالإسكندرية، وفي تلك النوادي يقيم الأعضاء حفلات للحفاظ على التراث الثقافي للأرمن.
يقول رئيس الهيئة الوطنية الأرمنية أرمن مظلوميان: «نستقدم الفرق الموسيقية من أرمينيا لإحياء حفلات بالأوبرا وغيرها، وتقديم الموسيقى الفلكلورية والتراث الأرمني؛ وفي المقابل يكون هناك أسبوع للثقافة المصرية في أرمينيا».
عادات خاصة عند الأرمن
يتعامل المصريون الأرمن فيما بينهم باللغة الأرمينية، لكنهم يجيدون العربية والعامية المصرية، بشكل لا تشعر معه أن لهم أصولًا أجنبية، كما يوضح الباحث والكاتب في التاريخ الأرمني عطا درغام، إنهم في نواديهم الخاصة يقيمون احتفالات بذكرى الأحداث المصرية المهمة.
- عادات الزواج
في عصور سابقة كانت الطائفة الأرمنية في مصر منغلقة على نفسها كثيرا، فلا يتزوجون من خارج الطائفة، لكن هذا الوضع تغير الآن، كما يروي الرئيس الفخري للمجلس الإقليمي للاتحاد الخيري الأرمني العام في مصر بيرج ترزيان، ويضيف: «الأجيال الجديدة أصبحت أكثر انفتاحا، ولا تضع قيودا على الزواج».
- هل هو مجتمع منغلق؟
لكن الباحث في شئون الأرمن عطا درغام يشير إلى أن الأنشطة الثقافية الأرمينية تكاد تقتصر على مجتمعهم الخاص.
ويعترف رئيس الهيئة الوطنية الأرمنية أن مشاركة الأرمن في الحياة الثقافية محدودة بسبب قلة العدد، فالجالية الأرمينية لا يتجاوز عددها 8000 في مصر.
إسهامات الأرمن الثقافية
الأرمن معروفون باهتمامهم الكبير بالثقافة والتعليم، حتى إن الشخص العادي منهم قد يتقن 4 لغات في المتوسط كما يقول «ثابت».
وفي مصر لمعت الكثير من الأسماء الأرمينية في مجال التعليم والثقافة، كما يقول «درغام»، مثل يعقوب أرتين وهو وكيل وزار المعارف «التعليم» في القرن الـ19، وألكسندر صاروخان الصحفي ورسام الكاريكاتير الشهير.
ويقول «ترزيان» إن خير مثال على مشاركة المصريين الأرمن الحياة الثقافية هو مجلة «أريك» الناطقة بالعربية.
وهناك أيضا «دار نوبار» للطباعة، وهي من أشهر دور الطباعة التي أسسها ويشرف عليها الأرمن. ومن جرائدهم أيضا صحيفة «الهوسابير» التي تصدر باللغة الأرمينية، وهي موجودة بشارع الجلاء.
- الأرمن والتعليم
رئيس الهيئة الوطنية الأرمينية، أرمن مظلوميان، يقول إن الطائفة تساهم في الحياة الثقافية وتطوير التعليم في مصر بالتعاون مع الحكومة الأرمينية والمصرية، وتوفر الكثير من المنح الدراسية للطلبة المصريين، بالإضافة لمنح التبادل الثقافي.
اليهود في مصر.. بين الثراء والتأميم ثم الانقراض
كيف يتفاعل الأرمن مع الأحداث الكبرى؟
يشير الباحث في التاريخ الأرمني بجامعة المنصورة الدكتور علي ثابت إلى أن الأرمن يتفاعلون مع الأحداث الكبرى، ويقول إن: «الطائفة الأرمنية كانت من أكبر المؤيدين لثورة 25 يناير؛ وفي أحداث 30 يونيو استطاعت أن تنقل الوضع في مصر للوبي الأرمني في روسيا، الذي له تأثير قوي على الحكومة الروسية، وجعلها تعترف بأحداث 30 يونيو».
- الابتعاد عن الظهور السياسي
لكن الأرمن يبتعدون عن أي ظهور سياسي. ويقول أستاذ التاريخ بجامعة دمنهور، محمد رفعت الإمام، إن: «تعرّض الأرمن لفترات طويلة من الاضطهاد، جعلهم حريصين في تصرفاتهم، وستجدهم دائما منحازين للدولة المصرية، لأنها في نظرهم وسيلة الحماية؛ فهم يشعورن دائما أنهم أقلية، ليس لديهم ظهير شعبي».
- المشاركة في البرلمان
ولو كانت هناك فرصة لمشاركة الأرمن في السياسة فسوف يشاركون بالتأكيد، كما يوضح «مظلوميان»، ويقول: «بعد ثورة 25 يناير بدأ الأرمن يهتمون أكثر بالشأن العام، وبصفة شخصية كنت أفضل لو يوجد عضو ممثل عن الطائفة الأرمنية في البرلمان المصري».
يرى «مظلوميان» أن البرلمان يمثل فرصة كبيرة للأرمن ليقدموا المزيد للمجتمع المصري في كل المجالات، في التعليم والاقتصاد والسياحة.
ويقول: «نعمل بالتنسيق مع الحكومة المصرية على أن يكون هناك طيران مباشر بين شرم الشيخ وأرمينيا لتنشيط السياحة، وبالنسبة للاقتصاد فهناك رجال أعمال في المهجر ينتظرون الفرصة للمساهمة في مصر؛ ووجود من يمثلنا في البرلمان سيسهل كل هذه الأمور».
- مخاطبة الأحزاب السياسية
لكن الأرمن لا يهتمون حتى الآن بالعمل السياسي أو الحزبي، وإن كانت لهم صلات ببعض الأحزاب. يقول «الإمام»: «خاطب الأرمن حزب المصريين الأحرار الذي اعترف بالإبادة الجماعية للأرمن وعقد سلسلة من المحاضرات والندوات للتعريف بقضية الإبادة الأرمنية».
الوضع الاقتصادي للأرمن في مصر
ربما أحداث الإبادة والشتات جعلت الأرمن معروفين بالتكافل الاجتماعي الشديد. وهناك الكثير من الجمعيات الخيرية المصرية الأرمينية التي تقوم بهذا الدور، مثل: «جمعية القاهرة الخيرية الأرمنية العامة» والكنيسة الأرمنية.
فالأرمن وإن كانوا معروفين بتنوع مهارتهم، لكن فيهم أيضا الغني والفقير والمشتغلين بالحرف اليدوية؛ كما يوضح عميد الفنون التطبيقية جورج نوبار: «الجمعيات المصرية الأرمينية تحاول سد هذا العجز بالتكافل الاجتماعي».
- هل يتأثرون بالأزمات الاقتصادية كغيرهم؟
هذا التكافل الاجتماعي جعل من الصعب أن يتأثر الأرمن بالأزمات الاقتصادية تأثيرا كبيرا، إضافة لعامل آخر يشير إليه «ثابت» وهو اهتمامهم باللغات والتعليم، ويوضح: «الأرمن يعلّمون أطفالهم العديد من اللغات الأجنبية في الصغر، فيكبرون وتصبح لديهم الكثير من فرص العمل المرموقة».
- فيهم فقراء ولا وجود للتمييز
يبتعد الأرمن عن الأعمال الحكومية، كما يوضح «الإمام»، ويفضلون الأعمال الحرة. وهناك الكثير من الشركات يمتلكها المصريون الأرمن، مثل مصنع «إيتالكس» و«دار نوبار» للطباعة، كما يوضح «الإمام».
ولكن رئيس الاتحاد الخيري الأرميني «بيرج ترزيان» يقول إن: «المصريين الأرمن فيهم الفقير، والجميعات الخيرية تساعد الذين لا يستطيعون تحمل تكلفة العلاج أو الرسوم الدراسية»، نافيا أن يكون الأمر متعلق بتوفير فرص عمل أو أي نوع من التمييز عن غيرهم من المصريين.
وضع الأرمن الحالي
يحاول الأرمن أن يعيدوا إحياء دورهم وتراثهم الثقافي وسط المجتمع المصري، كما يوضح أستاذ التاريخ بجامعة دمنهور.
لكن هذه المحاولات تظل ذات تأثير ضعيف بسبب قلة العدد، فقد هاجر كثير منهم في ستينات القرن الماضي، ولم يعد عددهم الآن يتجاوز 8000 شخص على الأكثر؛ وبالتالي من الصعب أن يكون لهم ظهور في وقت يتجاوز فيه عدد المصريين ككل التسعين مليون.