أمل دنقل.. دعكم من السياسة وتعرفوا على الطفل المحب
أمل دنقل.. شاعر عرفه الناس بصوته الجهوري وآرائه السياسية التي تحدى بها الأنظمة الحاكمة في كل عصر.
ولكن وراء هذا الرجل العنيد الصلب، شاعر تفيض قصائده بالرومانسية.. التي يحاول جاهدا أن يخفيها عن ملامحه وشعره..
ولم يكن هذا الجمود إلا حيلة دفاعية، وهو الذي يعترف ألا شيء أخطر عليه من الحب، بين كل الصعاب التي واجهها في حياته، ولا يمكن أن يوقع به أحد مهما كان.. إلا المرأة.
فماذا تقول لنا قصائد «أمل دنقل» عن الجانب الرومانسي في شخصيته؟ وما قصص الحب التي عاشها وحجبتها عنا آراءه السياسية؟
الحب في قصائد أمل دنقل
-
الحنين للبدايات
«مرت خمس سنوات على الوداع وفجأة.. رأى طفلتها».. مقدمة مختصرة لقصة طويلة عمرها خمس سنوات فأكثر، يحكيها «أمل دنقل» في قصيدته «طفلتها»..
هل انتهت قصتهما الجميلة بخيانة حبيبته له وزواجها وإنجابها طفلة من رجل آخر؟
كان ياما كان
أنه كان فتى
لم يكن يملك إلا.. مبدأه
وفتاة ذات ثغر يشتهي قبلة الشمس
ليروي ظمأه
صعدا
سلمة
سلمة..
في قصور الأمنيات المنشأه
قصة حالمة عاشها فتى وفتاة صغيرين لا يملكان من الدنيا شيء غير حبهما ومبادئهما وآمال كبيرة في مقتبل حياتهما.
تُجبر الفتاة الصغيرة ذات السبعة عشرة عاما على زواج تجاريّ من رجل يكبرها في السن؛ أما الشاعر الفارس المغوار الذي يحارب الجميع بكلماته، فلم يكن يملك إلا مبادئه العاجزة..
اشتراها في الدجى
صاغرة
زُفَّت السبعة عشر .. للمئة
لم يكن شاعرها فارسها
لم يكن يملك إلا
التهنئة
لم يكن يملك إلا مبدأه
ليس إلا..
كلمات مطفأة
لا نعرف إذا كانت هذه هي قصة الحب الأولى في حياة «أمل دنقل» أم لا.. لكنها لابد أن لها تأثيرا عميقا في نفس؛ فهو يخاطب الطفلة في بداية القصيدة ويقول لها أنه لولا القدر لكان هو والدها الذي ضيع والدتها منه، وضيع عمره معها..
كان في كفي ما ضيعته
في وعود الكلمات المرجأة
إنما عمرك عمر ضائع من شبابي
في الدروب المخطئة
كلما فُزتِ بعام
خسرت مهجتي عاما
وأبقت صدأه
قصيدة «طفلتها» كتبها «دنقل» عام 1962، وهي الفترة التي اشتهر فيها بشعره السياسي ونقده للمجتمع، لكنه لم ينشر تلك القصيدة إلا عام 1974.. لتنال جائزة المجلس الأعلى للفنون والثقافة.
يبدو أن الشاعر قد انتابه الحنين لبداياته الرومانسية، وأراد أن يُظهر الجانب الرومانسي من شعره بوضوح، لكن دون أن يؤثر ذلك على مكانته في المجتمع الأدبي كشاعر للرفض السياسي.. كما يقول الناقد «محمد علي العذب» في دراسة بعنوان « الشاعر أمل دنقل أيقونة الرفض والمفارقة».
-
حبيبته ذات العينين الخضراوين
ويهيم الشاعر في حب فتاة ذات عينين خضراويين، يتغزل في عيناها الصافيتين.. لكننا لا نعرف عن مواصفات محبوبته شيئا أكثر من هذا، فهو لا يصف مفاتنها للجميع؛ لكنه يشبهها بـ«مريم العذراء» بما تبعثه صورتها من أمان وسلام في النفوس.
العينان الخضراوان
أغنيتان مسافرتان
بعبير حنان
...
في صمت الكاتدرائيات الوسنان
صور للعذراء المسبّلة الأجفان
يا من أرضعت الحب صلاة الغفران
ردّي جفنيك
لأبصر في عينيك الألوان
أهما خضراوان
كعيون حبيبي؟
كعيون يبحر فيها البحر بلا شطآن
يسأل عن الحبّ
عن ذكرى
عن نسيان
وفي حبه لذات العينين الخضراوين فإن الشاعر يتحدى كل المنطق، فعندما يرى فتاة تشبهها يؤمن تمام الإيمان أنها علامة على اقتراب لقياه بحبيبته بعد أن فرقهما القدر.. كما يقول في قصيدة «شبيهتها» حتى أنه يكاتد أن يوقف الفتاة ويسألها عن حبيبته:
الرومانسية بالنسبة لأمل دنقل، لم تكن شيئا ثانويا بجانب شعره السياسي، أو استراحة يهرب إليها على فترات زمنية متباعدة؛ هذه الرومانسية كانت طبيعة في الشاعر، تمثل الحنين إلى الفطرة، ورفضا لقسوة المدينة، ورغبة في الاشتباك مع وعناصر الطبيعة التى تتماثل فى برائتها مع براءة الشاعر، والتي تظهر بقوة في حنينه لحبيبته ذات العينين الخضراوين؛ كما يقول «العزب» في دراسته.
-
فرحته التي تحترق
وأخيرا يجد الشاعر ضالته ويعيش قصة حب مكتملة الأركان في قصيدته «شيء يحترق»..
ولأنت جواري ضاجعه
وأنا بجوارك، مرتفق
وحديثك يغزله مرح
والوجه .. حديث متّسق
ترخين جفونا
أغرقها سحر
فطفا فيها الغرق
لكن آلام الماضي لا تتركه ينعم بقصته الجديدة بسهولة؛ ففرحة اللقاء تحترق، كلما تخبره مخاوفه أنه سيكون اللقاء الأخير..
ويحين وداعٌ
وقتيّ
وأراه كحلمٍ ينسحق
وأحسّ بشيء في صدري
شيء كالفرحة
يحترق
-
حبيبته السابقة في «الملهى الصغير»
ربما هو صوت الحكمة أو صوت اليأس التي تجعل الشاعر، بعد مرور السنين لا يحن مطلقا لحبه القديم.
فعندما يطاوعه قلبه ليقابل حبيبته السابقة، يسألها في برود: «ما الذي جاء بنا إلى هنا»؟
هذا البرود الذي يخفي خلفه الطفل الذي يخشاه «أمل دنقل».. الطفل الذي يحب بلا قيد ويتألم بلا نهاية.. إنه يرفض أن يعيد القصة بحلاوتها ومرارتها مرة أخرى..يحكي عن هذا اللقاء في قصيدته «الملهى الصغير»:
افترقنا ..
دون أن نغضب
لا يُغضب الحكمةَ صوتُ الهذيان
ما الذي جاء بنا الآن؟
سوى لحظة الجبن من العمر الجبان
لحظة الطفل الذي في دمنا
لم يزل يحبو
و يبكي ..
فيعان
-
العار الذي يتقيه «أمل دنقل»
لكن هذا الطفل الذي يخشاه «أمل» لا يلبث أن يستيقظ فيلومه أشد اللوم على أنه فرط في حبه القديم..
إنه يشبه الحب في قصيدته «العار الذي نتقيه».. بالطفل الذي ينكره أبوه وأمه فيقول:
هذا الذي يجادلون فيه
قولي لهم عن أمّه، و من أبوه
أنا وأنت
حين أنجبناه ألقيناه فوق قمم الجبال كي يموت
لكنّه ما مات
عاد إلينا عنفوان ذكريات
لم نجترئ أن نرفع العيون نحوه
لم نجترئ أن نرفع العيون
نحو عارنا المميت
يتخلى «أمل دنقل» هنا عن صورة العاشق المثالي المخدوع، أو الذي يحول القدر بينه وبين حبيبته، فبراءته وفطرته تعود إليه هنا في هذه القصيدة، ليصحح أخطاءه، ويعلن مسئوليته عن فشل هذا الحب وهذه العلاقة؛ كما يشرح الناقد «محمد العزب» في دراسته.
ورغم الرومانسية التي تفيض بين قصائده هذه، فقد بذل أمل جهدا كبيرا حتى يرسم لنفسه صورة الشاعر السياسي الرصين، كما يوضح «العزب» لكنه بين حين وآخر كان «أمل» يسمح ببعض القصائد الرومانسية في دواوينه.
ويقول النقاد أن هناك الكثير من القصائد العاطفية بين دفاتره ومسوداته، والتي لم يسمح القدر بأن ترى النور بسبب وفاته.
-
هل يحب الشاعر امرأة لعوب؟
والشاعر الذي ينزع عن نفسه ثوب الرفض والسياسة، عندما يعشق كطفل يعود لطبيعته الأولى؛ لا تفعه رجاحة عقله وصلابة رأيه حين يقع مرة وأخرى في فخ امرأة لعوب؛ لا تشبه حبيبته السابقة ذات العينان الخضراوين الصافيتين، وإن كانت ترتدي القناع نفسه.
يقول لها في قصيدته «استريحي»:
انتهت كلّ فصول المسرحيّة
فامسحي زيف المساحيق
و لا ترتدي تلك المسوح المريميّة
واكشفي البسمة عمّا تحتها
من حنين .. و اشتهاء .. و خطيّة
..
لم تكوني أبدا لي
إنّما كنت للحبّ الذي من سنتين
قطف التفاحتين
ثمّ ألقى
ببقايا القشرتين
..
وأنا ؛ قلبي منديل هوى
جففت عيناك فيه دمعتين
و محت فيه طلاء الشّفتين
-
أم كان «أمل دنقل» محب كثير الشك؟
والشاعر الذي يندفع إلى تبرئة نفسه أولًا ويلوم حبيبته فقط، يعود ويعترف بنفسه أنه سبب أساسي في فساد العلاقة، بسبب طباعه وكثرة شكوكه.. إنه يشك أن حبيبته تخونه..
يقول في قصيدة «خمس أغنيات إلى حبيبتي»:
تري حبيبتي تخونني؟
..
فأنت تعرفين أن زمرة النساء حولنا
قد انهدلت في مزلق اللهيب المزمنة
وأنت يا حبيبتي بشر
في قرننا العشرين تعشقين أمسياته الملونة
ثم يعود سريعا ويطلب منها السماح على فعل.. فأين ذهب عقله عندما كان يشك في حبيبته؟
قد دار حبيبتي بخاطري هذا الكدر
لكني بلا بصر
أبصرت في حقيبتي تذكارك العريق
يضمنا هناك في بحيرة القمر
عيناك فيهما يصل ألف رب
أحسست أني فوق فوق أن أشك
وأنت فوق كل شك
ماذا تقول لنا زوجة «أمل دنقل»؟
يعشق كطفل حتى النهاية أو يفرق بينهما القدر.. ويخاف من الحب حتى يقلب الطاولة ويُنهي كل شيء قبل أن يقضي الحب عليه شخصيا.. هذا ما تقوله لنا القصائد عن «أمل».. لكن ماذا عن الواقع؟
القصة الوحيدة المكتوبة بين أيدينا ترويها زوجته «عبلة الرويني» في كتابها «الجنوبي» الذي يرصد سيرته الذاتية..
التقته كصحفية تحاول جاهدة أن تجري في بداية مشوارها المهني، حوارا مع الشاعر ذائع الصيت.. ثم تطورت علاقتهما إلى صداقة، تأخذ الكثير من الحذر..
«لا تطمحي بأن تكوني أكثر من مجرد صديقة»..
هكذا يقول لها بدون مقدمات وبكلمات تصفها «الرويني» بالصادمة والمستفزة
لكن يبدو أن هذه الكلمات كانت مجرد حيل دفاعية من «أمل».. تجاه الحب الذي بدأ يتسلل لصداقته بـ«عبلة الرويني» والذي يخشى تكرار آلامه السابقة.
تعلق «الرويني» على هذه الكلمات.. «من المؤكد أن أمل أحبني».
وفي لقاء آخر لهما يصف لها معاناته وخوفه من الحب وتهربه الدائم منه «إنني رجل بدأت رحلة معاناتي في سن العاشرة، وفي سن السابعة عشرة اغتربت عن كل ما يمنح الطمأنينة.. وأعتقد أن السهم الوحيد الذي يمكن أن يصيبني في مقتل سوف يجيء من امرأة، ولذلك اتسمت كل علاقاتي بالرفض.. كنت أستغرق في الحب، لكنني في صميمي كنت هاربا من التمسك به».
ويعترف لها هو في نهاية المطاف: «لو لم أكن أحبك كثيرا لما تحملت حساسيتك لحظة واحدة؛ تقولين دائما عني ما أدهش كثيرا عند سماعه، أحيانا أنا ماكر، وأحيانا ذكي، رغم أنني لا أحتاج إلى المكر أو الذكاء في التعامل معك.. لأن الحب وسادة في غرفة مقفلة أستريح فيها على سجيتي، إنني أحب الاطمئنان الذي يملأ روحي عندما أحس أن الحوار بيننا ينبسط ويمتد».
وبالعودة إلى حوار سابق مع «جريدة الأهرام» يعود للعام 2011، يخبرنا شقيقه «أنس دنقل» أن الحب في حياة «أمل» كان دائما قويا وجارفا، وكانت أكبر قصص الحب التي عاشاها في صباه مع الفتاة ذات العينين الخضراوين وكان هناك مشروع زواج.. وأفرد لها قصائد متنوعة في ديوان «العيون الخضر».. لكن «الرويني» أخفت الكثير من قصائد «أمل الرومانسية» بعد وفاته، كما يقول «أنس».