رئيس التحرير أحمد متولي
 حكايات من دفتر المؤسسين الأوائل لـ«علم الكلام».. مصيرهم جميعا ينتهي بالقتل

حكايات من دفتر المؤسسين الأوائل لـ«علم الكلام».. مصيرهم جميعا ينتهي بالقتل

التجديد الديني نزاع قديم في التاريخ الإسلامي؛ فمنذ القرن الأول الهجري وتحديدا في عهد الدولة الأموية ظهرت البدايات الأولى لعلم الكلام الذي دعا أصحابه لتفسير نصوص القرءان بطرق عقلانية، وأنكروا الكثير من الموروثات الدينية.

إلا أن بعضا من أوائل المتكلمين انتهى مصيرهم بالتفكير ثم القتل، فما هي قصصهم وماذا أنكروا من الدين وماذا قصدوا بالتجديد.. نسرد في السطور التالية حكايات لأربعة من الكلاميين من التاريخ الإسلامي البعيد، وهل حمل فكرهم التجديدي ما هو أكثر خطورة من تقديم تفسير عقلاني للدين؟

معبد الجهني مؤسس القدريّة


لم يكن معبد الجهني مجرد أحد رواة الحديث في القرن الأول الهجري، فقد تعلم الفلسفة والمنطق واطلع على ديانات مختلفة وتأثر بفلسفتها؛  فقد كان أحد أستاذته مسيحي ويدعى «سينهويه»، كما يخبرنا كتاب «اللاهوت العربي».

يؤمن الجهني بأن الإنسان مخير في كل أفعاله وليس مسيرا أو مجبرا، وهو المذهب الذي سمي بالقدرية، ويقال أن الجهني هو أول من دعا لهذه الأفكار.

يؤمن الجهني بأن الإنسان مخير في كل أفعاله وليس مسيرا أو مجبرا، وهو المذهب الذي سمي بالقدرية، ويقال أن الجهني هو أول من دعا لهذه الأفكار.

أصحاب هذا المذهب يقولون إن علم الله بما سيفعله الإنسان أو سيختاره، لا يعني بالتبعية إجبار الإنسان على الاختيار أو خلقه في مسار أو قدر معين.

وبعضهم يقول إن الله لا يعلم  مسبقا ما سيختاره الإنسان أو يفعله.

هذه الأفكار كانت غريبة على المجتمع الإسلامي في ذلك العصر؛ واتهم صاحبها بأنه خارج عن الدين ويروج لكلام النصارى.

يهاجم «معبد» بأفكاره المذهب الجبري الذي يقول بأن الإنسان مجبر على كل أفعاله؛ وبالتالي فهو مجبر على الحكام كما يروج خلفاء بني أمية.

الصراع بين القدرية والجبرية كان وراءه صراع سياسي كبير؛ فالخلفاء كانوا يرون في القدرية تشجيعا على المعارضين للخروج عن الحكم والثورة على الخليفة؛ كما يقول الدكتور خليل صالح أبو رحمة في كتابه «لهب المعرفة.. من قضايا الأدب والفكر في التراث العربي».

حُسم هذا الصراع بمقتل معبد الجهني عام 80 هجريا بعد تعرضه للتعذيب ثم الصلب على يد الحجاج بن يوسف الثقفي.

 

غيلان الدمشقي صديق عمر بن عبدالعزيز

غيلان الدمشقي هو تلميذ معبد الجهني؛ وتقول الروايات التاريخية أن أصله كان قبطيا من مصر ثم أسلم، وأصبح مشهودا له بالصلاح والتقوي، وكان على علاقة جيدة مع الخليفة عمر بن عبد العزيز.

لكن كل هذا لم يشفع له عند أحد عندما بدأ في الدعوة لأفكار القدرية، كما يقول «زيدان».. لقد أمره عمر بن عبد العزيز بالكف عن هذا الكلام، لكنه لم يتعرض له؛ حتى إنه وكّل إليه توزيع أموال الفاسدين من بني أمية على الناس.

يمتزج الخلاف السياسي مع الخلاف الديني ليُقتل غيلان الدمشقي في النهاية.. فهو لم يكف عن مهاجمة بني أمية حتى بعد وفاة عمر بن عبد العزيز؛ فقد نُسب إليه قوله «ما آتاكم من خير فمن الله وما آتاكم من شر فمن بني أمية».

قتل غيلان الدمشقي في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك بعد أن قطعت يده ولسانه ثم صُلب على أحد أبواب دمشق؛ وذلك كما يقول صقر أبو فخر في كتابه «الدين والدهماء والدم: العرب واستعصاء الحداثة».

الجعد بن درهم يؤسس للمعطّلة

كان الجعد بن درهم يوصف بأنه أحد من نبغوا في العلوم الدينية؛ وقد وصل إلى مكانة صار بها معلما ومؤدبا لأبناء الخليفة؛ فعلى يديه تتلمذ مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية؛ حتى إن الخليفة فضل الانتساب إلى أستاذه فسمي مروان الجعدي؛  كما يقول الدكتور محمد عبد الرحيم الزيني في كتابه «شهداء الفكر الإسلامي».

يدعو الجعد إلى نفي صفات التجسيد عن الذات الإلهية، وإعادة تفسير الآيات القرآنية التي تصف الذات الإلهية بأوصاف بشرية.. وهي الفرقة التي سميت فيما بعد بالمُعطّلة؛ لأنهم عطلوا ونفوا صفات الله.

الآيات التي يقصدها الجعد هنا هي آيات مثل «واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا» - الطور 48 - إنها لا تعني هنا أن الله له عين مثل الإنسان، ولكنها في مذهب الجعد، تعبيرا مجازيا عن الحفظ والرعاية.

 وبالمثل الآيات «واتخذ الله إبراهيم خليلا» -النساء 125- أو «كلم الله موسى تكليما» -النساء 164- فالجعد ينفي أن يكون النبي إبراهيم خليلا أو صديقا لله بالمعنى البشري،  كما نفى صفة الكلام البشري عن الله؛ لكنه لم ينف واقعة الكلام نفسها وقال أن كيفية الكلام مجهولة.

هذه الآراء كما يصفها «الزيني» كانت ردا على الفكر الذي ساد في ذلك العصر بالمبالغة في إثبات الصفات الحسية لله؛ وقد اتهم الجعد بسببها بالزندق.

 وكانت هذه الأفكار أيضا هي البداية التي انبثقت منها مسألة «خلق القرآن» التي توصف بأنها محنة بين المفكرين المسلمين أدت إلى تعذيب ومقتل الكثير منهم.

نهاية الجعد كانت مؤلمة حقا؛ فالروايات التاريخية تقول أنه سُجن ثم ذبحه الأمير خالد القسري في الجامع بعد صلاة عيد الأضحى، وقال: «ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضحٍ بالجعد».

يعطينا «الزيني» في كتاب شهداء الفكر الإسلامي، فكرة عن الأسباب الخفية لمقتل الجعد فيقول: «لقد رأى الخلفاء أن أفكاره المستنيرة قد تفتح الباب أمام إعمال العقل ومن ثم المطالبة بحقوقهم السياسية والاجتماعية».

الجهم بن صفوان مؤسس الجهمية


يمزج الجهم بن صفوان بين أفكار عديدة؛ فهو مؤسس فرقة «الجهمية» التي تؤمن بالجبرية الجبرية، وتدعو في الوقت نفسه إلى تنزيه الذات الإلهية عن الصفات الحسية.

لكن الشيء الذي جعل الجهم هو أخطر علماء الكلام في عصره هو تمرده السياسي على السلطة؛ فقد انضم إلى الحارث بن سريج الذي ثار على الدولة الأموية عسكريا.

يفسر «الزيني» هذا الموقف فيقول في كتابه: «كان الجهم أحد موالي الدولة الأموية الذين يدفعون الجزية حتى بعد إسلامهم، وكان دائما ما يقارن بين تصرفات بني أمية التي تحتقر الموالي وتميز العرب اجتماعيا وبين دعوة الإسلام للمساواة والعدل؛ وكان يؤمن بأن التغيير يجب أن يكون بالسيف.. يحارب الدولة الأموية من جهة ويناقش تلاميذة ويجادل خصومه في الفكر والدين من جهة أخرى.

تعرض الجهم لحملة ظالمة بسبب أفكاره ومواقفة السياسية على السواء، كما يقول «الزيني» في كتابه.. هاجمه فيها الجميع حتى الأشاعرة والحنابلة والمعتزلة والقدرية؛ رغم اتفاقه مع الأخيرتين في مبدأ تنزيه الذات الإلهية عن الصفات.

وينقل «الزيني» عن شمس الدين الذهبي قوله عن الجهم بن صفوان: «الضال المبتدع رأس الجهمية هلك في زمان صغار التابعين، ماعلمته روى شيئا لكنه زرع شرا عظيما».

قُتل الجهم في مدينة أصبهان الفارسية، على يد الأمير سلم بن الأحوز، رغم أن ابن الأمير قد أعطى للجهم عهد الأمان.. وقال الأحوز له «لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقلتك»، وفقا لـ«االلاهوت العربي».

أميرة عبد الرازق

أميرة عبد الرازق

محررة صحفية ومترجمة مصرية مهتمة بشؤون التعليم واللغات وريادة الأعمال