«لقيطة اسطنبول».. «إليف شافاق» والقدر الذي نختاره بأيدينا
عندما كتبت إليف شافاق رواية «لقيطة اسطنبول» لم تكن تعلم أنها ستتعرض للمحاكمة، بتهمة الإساءة إلى بلدها تركيا، وأن يصدر في حقها حكما بالحبس 3 سنوات، قبل أن يتم العفو عنها.
تمسك إليف شافاق بقلمها لتكتب عن القدر الذي يشكل حياتنا، ثم تدخل الكاتبة إلى مناطق محظورة وتتحدث عن أقدار الشعوب، وكيف يشكل مصير الشعوب تفاصيل حياتنا اليومية.
ففي بيت عائلة «قازنجي» التركية تدور الرواية حول أفراد العائلة المتناقضون في شخصياتهم وطباعم؛ للدرجة التي يصعب معها تخيل أنهم من عائلة واحدة ويقطنون بيتا واحدا.. ثم تنتقل أحداث الرواية بالتوازي إلى أمريكا، حيث عائلة أخرى من الأرمن، تعيش صراعا بين أفرادها هي الأخرى.
ومن خلال ما يواجه الأفراد من مشكلات في حياتهم اليومية، تتعرض الكاتبة للتاريخ التركي والمذبحة الأرمينية؛ وتكشف كيف أن الصراعات التاريخية والسياسية قديما، تؤثر في الأجيال المتلاحقة والصراع النفسي واليومي الذي يواجهها أفراد العائلتين.
سنقابل في الرواية شخصيات رئيسية يشكلن أغلب الأحداث الهامة، مثل «زليخة» الفتاة الطائشة المتمردة على جميع التقاليد، وابنتها من علاقة مجهولة «آسيا» التي تشعر دائما بالضياع؛ والفتاة الأرمنية «آرمانوش» التي تربت في المهجر «أمريكا» وتشعر بأزمة فقدان هوية... فماذا تخبرنا هذه الشخصيات عن رؤية «إليف شافاق»؟
أسرار مرعبة عن «لقيطة اسطنبول»
عندما جلست العمة «بانو» تستمع إلى الجني الذي حضّرته، كانت عيناها متسعتان وتمتلئان بالرعب، من الحكايات التي تسمعها.
تستمع لحكايات قديمة عن عائلتها، عائلة «قازنجي».. هي حقا عائلة عجيبة لن تجد فيها فردًا يشبه الآخر..
فهذه «شكرية» المرأة المتعصبة لـ«أتاتورك»، وهذه «فريدة» غريبة الأطوار إلى حد الجنون والكآبة، وهذه «زليخة» المتمردة التي حملت وأنجبت دون زواج، وابنتها «آسيا» التي تشعر بالضياع ولا تعرف والدها، و«بانو» نفسها تلك المرأة الغارقة في عالم الخرافات.
وهناك أخوهم والرجل الوحيد في العائلة «مصطفى» الغائب الذي هرب ليتزوج بأمريكية؛ وأخيرا الفتاة الجميلة «أرمانوش» ابنة الأمريكية التي ستتزوج «مصطفى».
وبين هذه التركيبة العجيبة لا تهتم «بانو» إلا بحكاية «زليخة».. هناك سر كبير وراء تلك المرأة.
-
ضحية ومجرم؟
يحكي الجني القصة لـ«بانو».. كان الجميع يرى «زليخة» امرأة طائشة ألقت بشرف العائلة في التراب.
لكن هذه الفتاة تحمل ألما كبيرا بداخلها، تخفيه عن الجميع؛ فمنذ عشرين عاما تعرضت للاغتصاب، ورفضت إجهاض ابنتها «آسيا».
تتسع عينا «بانو» من هول المفاجئة عندما تعرف الحقيقة، لكن ما ستعرفه لاحقا أسوأ بكثير.
فالمغتصب هو أخوها «مصطفى» الذي يهرب إلى الأبد، وهو يحمل بداخله عقدة ذنب رهيبة.. يرفض الزواج، حتى يقابل امرأة أمريكية سبق لها الزواج وإنجاب الفتاة الجميلة «أرمانوش».
«مصطفى» لم يكن المذنب الوحيد في هذه الجريمة أو هذا التمزق الذي تعيشه ابنته مجهولة النسبة «آسيا» فالحكاية ترجع إلى زمن بعيد، سابق لوجود هذه الأسرة كلها.
«مصطفى» في الرواية يبدو مجرما بغيضا، لكن الحدود بين المجرم والضحية تتلاشى عند «إليف شافاق» فهي تجعل منه ضحية لمجرم آخر.
-
ضيف عير مرحب به
ستترك «بانو» الجني قليلا لترى ماذا ستفعل في هذه الضيفة غير المرحب بها «أرمانوش» التي ألحت على زوج أمها «مصطفى» أن يأخذها لزيارة عائلته.. بعد سنوات من الهرب والقطيعة.
«أرمانوش» تعيش أزمة فقدان هوية وصراعا داخليا أيضا؛ رغم أنها تعرف والدها جيدا.. هي فتاة أمريكية من أصل أرمني؛ وقد قُتل أجدادها في أحداث الإبادة الأرمينية عام 1915 التي يتهمون فيها الدولة العثمانية.
تحمل تلك الفتاة في قلبها العديد من الأسئلة.. لماذا يربيها آبائها على كره الأتراك لهذا الحد؟ لماذا لا تستطيع الأجيال الجديدة نسيان الماضي؟ ولماذا لا ترحب بها عائلة «قازنجي» حتى قبل أن تراها.
«إليف شافاق» وأقدار الشعوب
سيخبر الجني العمة «بانو» سرا أكثر خطورة، فجدة «أرمانوش» التي تدعى «شوشان» كانت زوجة لـ«رضا قازنجي» مؤسس العائلة؛ تزوجها بعد أن ماتت عائلتها في المذبحة، وكان يظن أنها ستنسى كل هذا مع معاملته الرحيمة لها.
لم تنس «شوشان» الماضي ومقتل عائلتها على يد الاتراك، لقتر الهرب إلى أمريكا لتلتقي ببقايا عائلها، وتهجر طفلها الصغير في تركيا.
يكبر هذا الطفل الصغير ويترك هجر والدته له جرحا لا يلتئم، يصبح حاد الطباع وقاسيا بشكل جنوني؛ يتزوج وينجب «بانو» و«زليخة» و«مصطفى» وباقي إخوتهم، الذين يعاملهم معاملة قاسية ولا يحنو عليهم، كما لم تحنو أمه عليه.
يعتاد هذا الأب على ضرب ابنه «مصطفى» بقسوة إلى حد التعذيب والإهانة، يصاب «مصطفى» باضطراب نفسي واضح.
لكن على الجانب الآخر تعامله والدته بلطف شديد وتميزه عن أخواته البنات، لأنه الولد الوحيد في عائلة لا يعيش فيها الذكور كثيرا؛ وبين هذا الاضطراب والتمزق الذي يعيشه «مصطفى».. ينتهي الأمر بجريمة اغتصابه لأخته الصغيرة.
وهنا تتسائل مؤلفة «لقيطة اسطنبول».. هل كان من الممكن أن يتغير قدر «زليخة» و«مصطفى» لو لم يكن والدهما بهذه القسوة المرضية؟ أو لم تهرب الجدة «شوشان» وتنسى الماضي الأليم وتهجر طفلها؟
-
ماذا ستختار؟
تؤمن كاتبة الرواية أن أقدار الشعوب وتفاصيل الحياة اليومية للأفراد مترابطة بخيط واحد.. هي لا تدعو في روايتها لأن يلعن كل منا القدر ثم يستسلم له.
لن تستطيع «زليخة» أن تمحو حادثة اغتصابها البشعة، ولن يستطيع الأرمن أن يمحوا أحداث المذبحة؛ لكن «آسيا» قد عرفت الآن من هو أبوها الحقيقي.. فماذا ستفعل؟ وأمام العمة «بانو» فرصة لتقول الحقيقة لـ«أرمانوش» حتى لا تهرب مثل جدتها.. وأمام الشعوب فرصة لنسيان أخطاء التاريخ والماضي واختيار مستقبلا أفضل.. فماذا سيختارون؟