دروس من الكاتب توفيق الحكيم: الفلوس حلوة بس أنت شد حيلك
توفيق الحكيم، واحد من رواد المسرح والرواية في الأدب العربي، اختار أن يحطم الصورة التقليدية التي يضعها المجتمع للأشخاص الناجحين؛ بأنهم لا يخطئون أبدا ويتخذون القرارات الصحيحة دائما، والتي تقودهم لمزيد من النجاح والشهرة.
ففي سيرته الذاتية «سجن العمر» يصف نفسه بالشخص الكسول والمتردد الذي قضى طفولة معقدة ومراهقة مشتتة بين أكثر من مجال وهواية.
ويصبح كتابه واحدًا من الكتب الملهمة للشباب الطموحين، ليأخذهم في طريق النجاح دون تعجيز، ويساعدهم في التصالح مع حيرتهم وتشتتهم وفشلهم وتكاسلهم في أحيان كثيرة؛ بعيدا عن الصورة التقليدية للشخص الناجح الذي لا يخطئ أبدا.
طفولة مزعجة
أن تعيش طفولة مزعجة أو «معقدة» أو أن يكون بداخلك الكثير من الصفات التي لا ترضى عنها أبدا، هذا كله لا يعني أنك لن تكون ناجحا في حياتك.
«كنت طفلا مزعجا، بشقاوته وعفرته»، هكذا يتحدث «الحكيم» عن نفسه، فقد كان كل همه هو إلقاء كل ما يجده أمامه من النافذة، حتى وصل الأمر إلى إلقاء الحُلى الذهبية، ثم ينظر إليها ضاحكا!
وعندما كبر الطفل «توفيق» انتقل إلى إشعال الحرائق بالمنزل! حدث ذلك عندما كان معتادا على الاختباء من والده الذي لم يكن راضيا عن قراءته للقصص، ويحمل معه شمعة وينهمك في قراءاته.
يقول في كتابه: «حدث ذات يوم أن جاء موعد الغذاء، فجعلوا ينادون علي وأنا مستغرق في قراءاتي، فخرجت من تحت السرير مهرولا تاركا - من ارتباكي- الشمعة موقدة، وإذا بصراخ يتعالى في الطريق والجيران يتصايحون.. حريقة حريقة»!
لا تدع أحدهم يحطم حلمك
قد يهزون ثقتك في نفسك ويقولون أنك «فاشل» أو في أحسن الأحوال سيجبرونك على تحقيق أحلامهم هم، وليس حلمك الحقيقي، كما حدث مع توفيق الحكيم.
فمنذ طفولته كان والده يطلب منه أن يحفظ قصائد كبار الشعراء وإلا يضربه حتى تسيل الدماء منه! لكنه استطاع أن يجد لنفسه طريقة يشبع بها هوايته، بعد مرض والدته التي كانت تسلي وقتها بقراءة قصص ألف ليلة وليلة وعنترة ذي يزن.
«صرت أبحث عن القصص والروايات التي كانت بيد والدتي لاستخرجها من صناديقها القديمة، وأعكف على قراءتها بسرعة.. لعل هذا ما ساعدني على إجادة العربية قبل الظفر بتعليم مُنظّم»، هكذا استطاع أن يجد متنفسا لهوايته.
كيف تتغلب على مرحلة التشتت
وفي فترة ما، قد تحتار بين أكثر من هواية أو مجال ولا تعرف ماذا تختار وكيف تقرر مصيرك، هذا أيضا ما حدث مع «الحكيم» رغم حبه للقصص؛ فلا يكاد يعثر على هوايته المفضلة التي يجد فيها نفسه، حتى يصاب بالتشتت بين مجالات أخرى.
- التلاوة القرآنية
فمرة يُغرم بالتلاوة القرآنية، ويسعى لأن يصبح مثل شيخه جميل الصوت، يقول: «كان ذلك الشيخ جميل الصوت، وكان الإعجاب بصوت هذا الشيخ حافزا لي على محاكاته».
- الفن والمسرح
ثم لا يلبث أن ينبهر بعالم الفن والغناء، بعد أن هبطت في مدينة دسوق، فرقة للمسرح الغنائي وتؤدي مسرحيات من الأدب العالمي، التي يصف ألحانها وقصائدها بأنها «لا تخطر على بال».
- الرسم
وكطفل يتسكشف العالم، ترك «توفيق» اهتمامه بالمسرح، ليهتم بشيء جديد وهو الرسم. يقول: «كنت أحبه وأجتهد أن أبرز فيه، فقد كان يملأني سرورا داخليا غربيا».
- الموسيقى
وكالعادة، لم تستمر هواية الرسم طويلا، فقد جذبه شيء مختلف عن كل ما سبق وهو الموسيقى.
«أبوك لو عرف هيدبحك»، كانت هذه «الصرخة» من والدته كفيلة بأن تنهي هذا الحلم قبل أن يبدأ، فوالده الذي يعمل قاضيا «محترما» لم تكن لتسمح له العائلة بأن يحترف الفن.
كيف تحسم التردد بداخلك؟
هذا التردد الذي قد يواجه أي شخص منا؛ يراه «الحكيم» شيئا طبيعيا في مرحلة ما، فالشخص الذي يحب الفن، سيبحث عن أي مخرج لروح الفن بداخله، سواء أكان موسيقى أو شعر أو رسم، بحسب المتاح أمامه.
أما توفيق الحكيم فقد وجد في النهاية أن المسرح سيكون أقرب هذه المخارج إلى نفسه. شيء آخر حسم هذا الصراع بداخله وهو التفكير بحرية مطلقة، بعيدا عن ضغوط الأسرة وتأثيرها. حدث ذلك عندما سافر وحده إلى القاهرة للالتحاق بالمدرسة الثانوية.
«لم يحظر على بال أهلي ولاشك، أن قذفوا بي إلى الحرية الواسعة والجو الفني الرحب حتى قذفوا بي إلى القاهرة.. فقد اتجهت للمسرح بكل ما يحمله جيبي ووقتي. فما إن أعثر على خمسة قروش في جيبي، حتى أسابق الريح إلى هناك، وأعود في منتصف الليل ماشيا على قدمي»، هكذا يصف هذه المرحلة الفارقة من حياته.
بماذا ستضحي بعد نجاحك؟
استطاع «الحكيم» أن يثبت نفسه كأحد الكتاب الشباب في زمانه؛ بعد أن اتخذ قراره بالتفرغ للمسرح والرواية، ولكنه أراد أن يقول في سيرته الذاتية أن تحقيق هذا النجاح لا يعني أنك لن تمر بعده بالكثير من الحيرة والتردد، والصراعات.
كان يحلم بمشروع ضخم، وهو كتابة موسوعة عن تاريخ الفن، وبعد البدء في كتابة 50 صفحة بالفعل، مزّق كل ما كتبه، فقد كان يخوض صراعا بين هذه الموسوعة وكتابة روايته «عودة الروح».
يقول: «إني أعرف نفسي، إني شخص لا يستطيع أن يسير في طريقين، وطاقتي لا تحتمل التشتيت، ولا تعمل إلا بالتركيز، صممت على أن أمزق أحد العملين.. وأخيرا انتهيت إلى تمزيق كل ما كتبته في الجزء الأول من كتاب الفن، وكانت حجتي أن هذا الكتاب سيأتي من يكتبه حتما، أما «عودة الروح» فهي عمل شخصي لحياة إنسان لن تتكرر».
المال يحفز الإبداع
الموهبة أم المال؟ المغامرة بما تحب أم الوظيفة التقليدية والراتب المضمون؟
بالنسبة لكاتب مثل توفيق الحكيم؛ فقد غامر بالموهبة في وقت لم يكن فيه الكتاب يحظون بالتقدير المادي الكافي؛ لكنه في نفس الوقت لم ينكر أن المال الوفير كان أهم العوامل لتحفيز إبداعه.
كان «الحكيم» قد أنهى موسم العمل، ويشعر بالإنهاك وعدم الرغبة في العمل إلإطلاقا، عندما طلب منه مخرج فرنسي سيناريو لفيلم عن الريف المصري؛ سيصدر بالعربية والفرنسية. ولكن بعد أن عرض عليه المخرج مبلغا يزيد عن 30 ألف فرانك؛ تغير موقفه تماما.
«هنا فقط بدأت أنظر إلى الأمر بعين الجد.. ليس بيني وبين أن أقبض مائتين من الجنيهات إلا أن أضع إمضائي هنا. وأدركت أن المال قدير أحيانا على تغيير مصائر الأشياء، حتى في مسائل الفكر والأدب، فإذا لم يكن الفنان محتاجا إلى المال ليعيش، فهو محتاج إليه لينتج»، وكانت هذه نصيحة «الحكيم» في كتابه «حمار الحكيم».
من الممكن أن تكون أفضل منك
لم ينجح «الحكيم» في قراره بكتابة «عودة الروح» فقط، بل أصبح بسببها واحدا من رواد الرواية العربية. ولكن هل كان يمكن له أن يكون أكثر نجاحا؟
الإجابة هي «نعم»، ويتابع «الحكيم» في كتابه: «لقد ضاع مني الكثير من قدراتي ومن موهبتي، بسبب طبيعتي المثقوبة كالغربال بمائة ثقب من القعود والتردد والإهمال.. وإذا كان قد صادفني نجاح، فإن كثيرا منه قد هبط على رأسي من حيث لا أدري ولا أتوقع.. هل كان من الممكن أن أكون أفضل مما أنا في مجال الخلق الفني.. لماذا لم أكن أفضل مما كنت؟».
بهذه الكلمات ينهي الكاتب الكبير سيرته الذاتية، وكأنه ينصح الشباب بألا يستسلموا إلى الكسل، فقد لا يمنعك من أن تكون ناجحا، لكنه بالتأكيد لن يجعلك أكثر نجاحا وتألقًا.