الأدباتي والحكواتي والأرغول.. هذه الفنون ولدت في مقاهي القاهرة القديمة
لم تكن المقاهي قديماً مجرد مكان لتناول المشروبات أو تدخين الشيشة فقط، وإنما كانت أيضاً رحماً خرجت منه ألوان متعددة من الفنون التي لاقت إقبال المصريين وإعجابهم.
في كتابه «المقاهي الثقافية في العالم. القاهرة. باريس. دمنهور» يستعرض الباحث كامل رحومة عدداً من هذه الفنون التي ما زال بعضها مستمراً حتى الآن.
الأدباتية
كان يقدمها بعض أصحاب المواهب الأدبية من المهرجين بأسلوب زجلي مرتجل يتناول الحياة العامة بالسخرية والنقد والتجريح في كثير من الأحيان؛ لذا كانت تستخدم غالباً في المعارضة السياسية أو النقد الاجتماعي.
ويبدأ الأديب غالباً بجملة مشهورة يقول فيها عادة: «أنا الأديب الأدباتي»، ثم يروي بعد ذلك حكايته على أنغام طبلة صغيرة يدق عليها بقطعة من الجلد.
وكان عبد الله النديم أشهر أدباتي في مصر في مطلع القرن العشرين، وكان يحكي حكاياته في مجلس المنشاوي باشا بطنطا (الصديق المقرب للزعيم أحمد عرابي)، عندما كان هذا الباشا كبير أعيان تلك المدينة، وكان من أشد المعجبين بـ«النديم» الذي أصبح فيما بعد خطيب الثورة العرابية.
ومن أشهر عبارات الأدباتية قولهم «شرم برم.. حالي غلبان»، وكان الأدباتي يستطيع التعبير عن رأي الشعب بطريقة غامضة غالباً، لكنها مفهومة للجمهور المتابع حتى لا يتعرض الأدباتي للمسئولية أمام السلطات المستبدة.
الأرغول
صاحب الأرغول هو الذي يحكي الحكايات الزجلية أيضاً، مبتدئاً بالعبارة المشهورة: «الأولة آه.. والثانية آه.. والثالثة أه».
ويُقال إن بيرم التونسي أول من كتب الأرغول ثم قلده زجالون آخرون في هذا الفن، لكن هناك رأي آخر يرى أن هذا الفن من الفنون الشعبية القديمة التي كانت تقال ارتجالاً في القهاوي، ولكن «التونسي» جعلها فناً مكتوباً منذ 1924، عندما كان في مرسيليا يعمل مع الشيالين هناك.
ألعاب خيال الظل
هو فن شبه مسرحي يقال إن جذوره تنتمي إلى بلاد الصين، ثم انتقل إلى العرب عبر المغول، واشتهر أيام العباسيين وكان موجوداً أيام الفاطميين.
تُقدم عروضه في المقاهي والأماكن العامة، ويعتمد على عرائس من القماش يتم تحريكها وراء ستار من القماش الأبيض، ما يجعل ظلها هو الذي يبرز للمشاهدين. وكانت المقاهي تعرض تلك العروض كل ليلة عبر قصص الحكواتي. وذكر بعض الدارسين من الأجانب أن هذا الفن هو أساس فن السينما.
القرة كوز
«القرة كوز» أو «الأراجوز» هو أحد الأشكال التمثيلية التي تنتمي إلى ما يعرف بـ«مسرح العرائس»، وهو عبارة عن دمية قفاز تُلبس في اليد، ويعتمد على الفكاهة والقفشات غالباً، والارتجالية في التمثيل أحياناً كثيرة.
ومن أشهر فناني الأراجوز في العصر الحديث المنولوجست الفنان محمود شكوكو الذي بدأ هذا الفن في المقاهي، ثم تطور معه إلى مسرح العرائس مع المبدع صلاح السقا، ومن قبل أسسا معاً مسرح «محمود شكوكو للعرائس».
بتوع رمز
«بتوع رمز» هم رجال ونساء لهم أزياء صارخة الألوان. وكانوا يقومون بعمل ماكياج لوجوههم بالأصباغ والألوان، ثم يؤدون حركات تشبه حركات الأكروبات على أبواب المقاهي، مع قولهم لبعض العبارات التي تحكي حكاية قصيرة تكون في الغالب خيالية.
ويرجع إطلاق اسم «رمز» على هذه الفئة إلى أنهم كانوا في حكاياتهم يستخدمون أسلوب الرمز، وهي غالبا حكاية غرامية مجهولة ليس لها أول ولا آخر، ولكنها ترمز إلى حالة المجتمع في ذلك العصر، وتعالج المشكلات التي كانت تواجه الناس، مثل الغلاء. ويعتبر هذا الفن فناً تعبيرياً في المقام الأول، وغالباً ما يستخدم التمثيل الصامت.
النكتة
هي حكاية ساخرة لاذعة أقرب إلى الحكمة السريعة التي لا حكاية متكاملة فيها، ولها شخصية تمثل الحكاية وتصورها، ولها أيضا مناسبة تُقال فيها.
ويذكر عن الشيخ حسن الآلاتي أنه كان يرتاد مقهى بحي السيدة زينب ويطلق عليه اسم «المضحكخانة»، ويشترط لدخول مجلسه وضع رسالة في التنكيت والقفش، حتى إذا حازت عنده قبولاً ضم مقدمها إلى مجلس النادي. جمع «الآلاتي» كثيراً من نوادر «المضحكخانة» في كتاب طُبع في نهاية القرن الماضي، ويحمل نفس الاسم.
ومن أشهر ظرفاء المقاهي في موضوع النكتة هذه الشيخ الساخر عبد العزيز البشري، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، والشاعر البائس عبد الحميد الديب، والأديب الساخر محمود السعدني، والكاتب والشاعر الكبير كامل الشناوي، وحنفي محمود باشا وآخرون. ومن المقاهي التي ما زالت تعقد جلسات التنكيت مقهى «أفتر إيت» بوسط البلد.
5 مقاهي تُعيدك إلى الماضي.. «فاروق» زار واحدة منهم
الحكواتي
شكل فني قديم به تواصل بين الحكَّاء والجمهور، وفيه يروي الحكواتي الحكايات أمام الجماهير بطريقة تمثيلية مستخدماً جميع وسائل الفن التمثيلي من ثياب وأدوات وحركات، بحيث يجلس على دكة عالية في وسط المقهى.
الملاحم والسير الشعبية
هو نشاط قديم للمقاهي وصل إلينا وصف لمجالسه مع أول وصف للمقاهي في مصر للمستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين بكتابه «المصريون المحدثون».
وقال «لين»: «يجلس القاص فوق مقعد صغير في أعلى المصطبة، المقامة بطول واجهة المقهى، ويجلس السامعون إلى جانبه، بينما يجلس آخرون على مصاطب المنازل المقابلة في الشارع الضيق، والباقون على مقاعد من الجريد، وأكثرهم يدخن الشبك، وبعضهم يرتشف القهوة، وهم جميعاً يبتهجون أعظم الابتهاج بسماع القاصّ لقوة تمثيله، ولموضوع القصة».
كما وصف علماء الحملة الفرنسية هذا الفن بكتاب «وصف مصر» على النحو التالي: «يوجد في كل مقهى عدد من الرواة والمُنشدين يحكون أو يغنون حكاية صحيحة أو وهمية عن شخصية خارقة ورد اسمها في النصوص الدينية أو التاريخ الإسلامي، ويكون الإلقاء عادة حيَّا مليئَّا بالقوة والحيوية، كما أن الأغنيات تمتلئ بعبق الشعر ووهجه».
وأضافوا «تكون نغمة الحكي مرتفعة، أما نغمة الحوار فمتوسطة، ويتوقف الراوي في معظم الأحيان ليسأل مستمعيه عما إن كانوا يشكون في صحة حكاية أو ما إن كانت الحكاية في – مجملها - جميلة أو خيرة، ويزيد منشدو المقاهي هؤلاء حكاياتهم حيوية عن طريق حركات بالغة التعبير، ويصحبونها أو يسبقونها بموسيقى غريبة تصدر عن آلة موسيقية وتَرية».
وتحدث كلوت بك في كتابه «لمحة عامة إلى مصر» عن هؤلاء المنشدين الذين يطلق عليهم اسم «شعراء» بتفصيل أكثر، وقال: إنهم طائفة خاصة من الناس يروون تلك القصص على مسامع الجمهور، وهم ينقسمون إلى أقسام أو فرق تختص كل فرقة منها برواية قصة واحدة. وهم ثلاثة أنواع: الهلالية (نسبة لسيرة أبي زيد الهلالي) وهي الأكثر عدداً، والبيبرسية (نسبة لسيرة الظاهر بيبيرس)، والعنترية (نسبة لسيرة عنترة ابن شداد)، وقلما تتعدى طائفة منهم على طائفة في تخصصها.
ولم يذكر كلوت بك ولا علماء الحملة الفرنسية من قبله بعض السيرَ الشعبية التي كانت مشهورة في مقاهي القاهرة، مثل سيرة «ذات الهمة» و«علي الزيبق».