فاطمة سعيد تكتب: إنهم يغتالون برائتي
تتقاذف الأفكار في رأسي
عن قصة كان من المفترض أن تُكتب منذ أكثر من عقٍد كامل، ولكنها لم تكن ناضجة كفاية لتخرج إلى النور، والآن فقط حان وقت كتابتها.
لن أكتب قصة حياتي، فليس فيها ما يدعو للفخر، حتى تلك الشهادة المزينة بتقدير «امتياز مع مرتبة الشرف» والمستقرة بين الأوراق المكدسة في الشنطة الجلدية، التي تحوى كل المستندات الرسمية، والتي لا قيمة لنا بدونها، أو حتى بها.
لن أحكي قصتي؛ بل قصة كل فتاة بريئة نشأت على فطرتها، قصة من كدت أمها في تربيتها وتكبد أباها المشقة في توفير رزق حلال لها ولأخواتها.
قصة فتاة عادية، بل هي أقرب للمثالية، بالغ من حولها في تحديد العالم من حولها، أو ربما إخفاؤه، فلا تتعدى حدود تعرف عالمها الصغير مدرستها وأقاربها، حتى صديقاتها لم يكن مسموح لها بزيارتهن وحدها.
لم تعرف من الكذب يوما سوى أنها لم تأكل طعامها بالمدرسة ولم تخبر أمها، ولم تعرف من الغش يوما سوى ما كان صديقاتها يلتقطونه من أوراق امتحاناتها.
نسجت في خيالها عالمها المثالي وزينته ببراءة الأطفال. ثم كبرت فجأة.. أو اكتشفت فجأة أنها كبرت، وبدأت مرحلة جديدة في حياتها.. دون حدود أو قيود.
إنها الجامعة، مرحلة التغيير والتغير، مرحلة الاختلاط بالبشر المختلفين في الطباع والنوايا، والذين لم تعرفهم يوما.
وثق أبواها بها، وظنا أن تربيتهما لها كانت كافية لتواجه ما هي مقبلة عليه، ظنا أنها كانت كافية لتحافظ على ما بداخلها من براءة وطهارة ونية حسنة.
هي أيضا ظنت ذلك، لم تكن تدري أن هناك أنواع من البشر لم تعرفها بعد، لم تكن تعرف أن خبرتها بالحياة محدودة؛ أو بالأصح معدومة.
ثم بدأت الصدمات، وبدأت الاضطراب، فتسقط تارة بين شباب يستغلون سذاجتها ويحصلون على مجهود دراستها، وتسقط تارة بين براثن شاب يستغل عواطفها بكلام معسول عن الحب، فقط ليرى كيف تحب هذه الساذجة.
كانت مقتنعة أنها على صواب وأنها تفهم ما يدور من حولها، وأنها يجب أن تبدأ هذه المرحلة في حياتها بالتغيير، وأن تتأقلم مع مجتمعها الجديد، طالما كل من حولها هكذا. وقدمت لنفسها المبررات: أنا لم يمسسني بشر؛ وتناست لمسات أنامل شاب يصافحها، أنا محتشمة في ملبسي عمن حولي؛ وتناست مظهر ملبسها من قبل بحجابها الطويل، أنا لم أخطئ عندما أحببت؛ وتناست أن من الحب ما هو حلال وما هو حرام.
وفي غمرة كل هذا استيقظت، نعم استيقظت لتجد أنها لم تعد هي، بل لم تكن شخصيتها الجديدة تشبه ما كانت عليه من قبل، طفقت تبحث عن شيء جميل بداخلها فلم تجد، لم تجد سوى فراغ خلفته براءتها عندما رحلت، ولم تكن تدرى أن ما يذهب لا يعود ثانية.
بكت، ولم تكن الدموع كافية، لامت أمها: معذرة يا أمي لم تكن تربيتك كافية لتحميني، لامت أباها: معذرة يا أبي لم يكن رزقك الحلال ليكفيني شر الحياة، لامت نفسها: فأنا من فتحت قلبي للحياة دون أن أحذر من شرور الناس.
والأن، وبعد أكثر من عقد كامل عن قصتها، وبعد أن أخذتها الحياة في غمرة المسئوليات لا زالت تفتقد ذلك الشعور بداخلها وتتسائ: هل البراءة مقتصرة على الأطفال؟ أم هناك من يستطيع أن يحافظ عليها بداخله مهما كبر؟