قبل مائة عام من الآن.. شاهد كيف كان حال المصريين عام 1918
في مثل هذه الأيام منذ مائة عام كان المصريون يعيشون معطيات حياتية قادتهم إلى الثورة على الاحتلال البريطاني في 1919، ولم تنفصل هذه المعطيات بحال من الأحوال عن الحرب العالمية الأولى التي انتهت في هذا العام أيضاً.
كيف عاش المصريون في عام 1918؟ هذا ما تناوله عبدالرحمن الرافعي في أجزاء من كتابه «ثورة 1919.. تاريخ مصر القومي من سنة 1914 إلى سنة 1921».
مديونية إنجلترا
في هذه السنة انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة ألمانيا وحلفائها، وكانت أول دولة ألقت السلاح هي بلغاريا، ثم أعقبتها تركيا، إذ عقدت الهدنة مع بريطانيا العظمى وحلفائها يوم 31 أكتوبر سنة 1918، وفي 11 نوفمبر من نفس العام عُقدت الهدنة بين ألمانيا والحلفاء، وانتهت هذه الحرب الطاحنة بانتصار إنجلترا وحلفائها.
موريشيوس.. تسهيلات للشباب وجذب للاستثمار والربح سريع
ومنذ نشوب هذه الحرب أنفقت الحكومة المصرية لحساب الحكومة البريطانية ولأغراضها العسكرية مبالغ طائلة في مختلف المصالح، وقُيدت هذه المبالغ في حساب العُهد على الحكومة البريطانية، وقد خص معظم النفقات مصلحة السكك الحديدية.
ووضع السير وليم برونيت المستشار المالي بالنيابة كشفاً في أوائل سنة 1918 بالمبالغ التي أنفقتها الحكومة في هذا الصدد حتى 31 ديسمبر سنة 1917، فزادت على 2.5 مليون جنيه، مع تقدير مبلغ نصف مليون جنيه آخر كان منظوراً صرفه حتى آخر السنة المالية. أي أن ما أقرضته الخزانة المصرية للحكومة البريطانية بلغ 3 مليون جنيه، كان علي أنجلترا أن تؤديها لمصر.
ولكن الحكومة المصرية أظهرت سخاءً هائلاً في شأن هذا القرض. واجتمع مجلس الوزراء برئاسة السلطان حسين كامل يوم 9 مارس سنة 1918، وقرر من تلقاء نفسه أن تتحمل الخزانة المصرية المبالغ المذكورة حتى 3 مليون جنيه «اعترافاً بجميل بريطانيا العظمى التي حمت البلاد من خطر الغارات».
ليس هذا فحسب، بل قرر مجلس الوزراء أيضاً أن تُدرج وزارة المالية نصف مليون جنيه آخر للقيام بالمصروفات التي من هذا النوع في السنة التالية، فبلغت منحة الحكومة البريطانية 3.5 مليون جنيه.
كانت مرافق البلاد وإصلاح أحوالها الصحية والاجتماعية في ذلك الوقت أولى بإنفاق هذه الملايين، بدلاً من بذلها إعانة لحرب كان الغرض منها تثبيت الحماية البريطانية على مصر.
هكذا تقضي عاما نموذجيا.. خطط للسنة الجديدة من الآن
خسارة اقتصادية
في هذا العام أصيبت مصر بخسارة اقتصادية فادحة، إذ احتكرت الحكومة البريطانية محصول القطن كله في ذلك العام، وحددت سعر شرائه بـ 42 ريالاً «سبعة جنيهات و440 مليماً» للقنطار من رتبة «فولي جود فير».
وأصدرت الحكومة المصرية بياناُ في 13 مارس من نفس العام بررت فيه هذا الاحتكار بالأحوال الاستثنائية الناجمة عن الحرب والمتأثرة بها تجارة القطن ولا سيما قلة بواخر النقل وتخفيض مساحة الأراضي الزراعية قطناً، وأيضاً مراعاة لضرورة الاحتفاظ بما للإمبراطورية البريطانية وما للحلفاء من المواد الطبيعية سداً لحاجتهم الضرورية.
وكان سعر القنطار في الخارج وقت صدور القانون نحو 64 ريالاً، ومن ثم لحق الغبن بمحصول سنة 1918 من جراء هذا الاحتكار، إذ بلغت خسارة المصريين فيه نحو 32 مليون جنيه.
والملاحظ أن الحكومة اعترفت صراحة أن الغرض من هذا الاحتكار وهذا التحديد للسعر هو الاحتفاظ للإمبراطورية البريطانية وحلفائها بالمواد التي يحتاجون إليها، وقد كان العدل في المعاملة يقتضي أن يدفع الإنجليز نفس الثمن الذي كان يُدفع في أمريكا وغيرها من دول الحلفاء.
وكان هذا الاحتكار سبباً في التمهيد لثورة 1919 باعتراف السامي البريطاني اللورد ملنر الذي قال في تقريره «التحكم في أسعار القطن زاد استياء الناس لأن هذا التحكم يحرم الزراع مزية المزاحمة في الأسواق الخارجية مع كون إيجار أطيانه في ازدياد».
مصادرة الدواب
ويدخل في سياق الأسباب الاقتصادية للثورة مصادرة السلطة العسكرية لأرزاق الناس وحاصلاتهم ومواشيهم ودوابهم. في 20 أكتوبر سنة 1918 صدر مرسوم سلطاني بتشجيع الناس على التطوع في الخدمة العسكرية، ومنحهم امتيازات تحثهم على ذلك، وزادت حركة مصادرة الإبل والدواب.
فقد أصدرت السلطة العسكرية في نوفمبر من نفس العام بياناً بأنها ما زالت في حاجة إلى جمال ونياق وحمير تجمعها من مختلف المديريات، وحتمت على أصحابها أن يحضروا ما لديهم من هذه الدواب إلى المراكز والأقسام لمعاينتها تمهيداً لشرائها، ولا يجوز لهم أن يتصرفوا فيها أو ينقلوها من جهة إلى أخرى إلا بإذن من المأمور المختص.
وكل جمل أو ناقة أو حمار لا يصلح للأعمال العسكرية يُدمغ بعلامة مخصوصة بحيث إذا وجد حيوان غير مدموغ بتلك العلامة ولم تأخذه السلطة العسكرية يؤخذ ويعاقب صاحبه.
ومعنى ذلك أن السلطة العسكرية استولت على جميع الإبل والنياق والحمير الصالحة للأعمال العسكرية بأبخس الأثمان، ولم تبق منها إلا ما يقرر الأطباء البيطريون عدم لياقته للخدمة.
غلاء وثروات
شهد عام 1918 اشتداد الغلاء في البلاد، فارتفعت أسعار الاحتياجات الأساسية كالحبوب والأقمشة والوقود ارتفاعاً مطرداً، واشتدت وطأة الغلاء على الطبقات الفقيرة والمتوسطة وهم السواد الأعظم من الشعب، خاصة أن أجورهم لم تكن لتكفي النفقات التي يقتضيها غلاء المعيشة، في حين أنهم كانوا يرون عدداً كبيراً من مواطنيهم ومن الأجانب غير المحبوبين عندهم يجمعون الثروات الكبيرة.
ورغم أن الحكومة منحت علاوة لغلاء المعيشة، لكنها لم تكن علاجاً ناجحاً للغلاء، وزادت من دخلها لتعوض هذا المبلغ، فرفعت أجور النقل بالسكك الحديدية 50% علاوة على زيادتها من قبل فبلغت الزيادة 100%.
القانون النظامي
ظهر مشروع هذا القانون في نوفمبر سنة 1918، وكان من الأسباب المهمة التي عجلت بالثورة. كان السير وليم برونيت يتولى منصب المستشار المالي بالنيابة وصاحب الحول والطول بين المستشارين البريطانيين في شئون الحكومة كافة، وكان عضو لجنة ألفها مجلس الوزراء لوضع التعديلات التي يستدعى إدخالها في القوانين والنظم القضائية والإدارية بما ينسجم مع الحماية البريطانية على مصر.
وضع «برونيت» مشروع قانون نظامي لمصر ينزل بها إلى مرتبة المستعمرات التي يراد جعلها سوقاً لكل من نزل بها من رعايا الدول الأجنبية، ويتلخص هذا المشروع في إنشاء مجلس نواب مصري يُؤلف من المصريين ولكنه استشاري محض، وليس له سلطة قطعية في أي أمر من الأمور.
وبجانبه مجلس شيوخ يملك وحده السلطة التشريعية ولكنه خليط من المصريين والأجانب، ويؤلف من من أعضاء رسميين، وهم الوزراء المصريون والمستشارون الإنجليز ومن في مرتبتهم من الموظفين البريطانيين، ثم من أعضاء منتخبين يُنتخبون بطريقة كثيرة القيود والشروط منهم 30 مصرياً و15 أجنبياً بحيث تكون الأغلبية فيه للاعضاء الرسميين والاعضاء الأجانب المنتخبين، والأقلية للاعضاء المصريين المنتخبين. ولو نُفذ هذا المشروع لصارت سلطة التشريع في يد شرذمة من الأجانب، ولصار المصريون في بلادهم غرباء.
لم يكن أحد من المصريين يعرف هذا المشروع، ولكن أنباء ذاعت حين قدم «برونيت» صورة منه إلى حسين رشدي باشا رئيس الوزراء في أواسط نوفمبر 1918، إلا أن الأخير أجاب بالرفض، وما كاد يُذاع المشروع حتى عم السخط على السياسة البريطانية وعلى النيات التي كانت تضمرها للمصريين.