مهمة جاسوسية كادت تكتمل لولا أهل سيناء.. حين حاول الإنجليز تجنيد البدو عام 1882
في عام 1882 تمكن أهالي سيناء من قتل بعثة إنجليزية بقيادة المستشرق «إدوارد هنري بالمر» التي كانت تتجه لتجنيد أهالي سيناء لتسهيل دخول الاحتلال من الشرق وقطع الطريق على حركة أحمد عرابي في مقاومة البريطانيين.
كان ذلك في أثناء ثورة الجيش عام 1881، بقيادة أحمد عرابي ضد الاحتلال الانجليزي. يحكي «شبابيك» القصة الكالمة، قبل بعثة « بالمر» وحتى نهايتها، كما وردت في كتاب «تاريخ سيناء الحديث» للدكتور صلاح صبري.
الجيش المصري يرد على «غارات إسرائيل في سيناء»
سيناء ودعم ثورة الجيش
دعمت سيناء الثورة العرابية ضد تزايد الفساد المالي والتدخل الأجنبي، وقد اضطر الخديوي «توفيق» لقبول مطالب عرابي والجيش، فأرسلت بريطانيا الدعم للخديوي واحتلت جيوشها الإسكندرية والقاهرة، وبتحريض من بريطانيا، أعلنت الدولة العثمانية عرابي خارجًا عن الدين لإسقاط شعبيته.
بقيت سيناء على موقفها في صالح الجيش رغم ذلك، مثل الدعم الغذائي بإرسال «محمد حافظ بك» محافظ العريش شحنة بعشرة آلاف ثمرة للجيش في كفر الدوار، كما بعث الأهالي بالجمال لنقل المؤن والذخيرة وطلب عرابي منهم حراسة الشواطيء ضد قدوم الإنجليز.
قتال العدو المشترك
حاول أحد تجار الإسماعيلية شراء الجمال للإنجليز من منطقة بين العريش والقنطرة، وحين علم البدو بهذا قاوموه وكادوا يقتلونه، ولم يجد التاجر سوى الاحتماء بمحافظ العريش الذي هدده بالقتل أيضًا، لكن هذا لم يكن الموقف الوحيد لبدو سيناء.
إذ هاجم البدو الإمدادات والمؤن الإنجليزية وسلبوا ما تحمله جمالهم، فقد شعروا بمصيبة دخول العدو لأرضهم المقدسة وانهزام الجيش، بل إنهم هجموا على البدو المؤيدين للإنجليز بين منطقتي البوستة والقنطرة، ومنعت بعض القبائل دخول القوافل من الشام لمصر خوفًا من إمداد الإنجليز.
اشترك البدو في المعارك مع مؤيدي الثورة ضد القوات البريطانية، بمشاركة عرب «الترابين» بقيادة شيخهم في قتال أربعين رجلاً من الإنجليز والهنود وبدو الطور الموالين للإنجليز، وذلك عند «عجرود» بالقرب من السويس، فقتلوا منهم خمسة عشر رجلاً.
محاربة الجواسيس
حارب أهل العريش جواسيس الإنجليز سواء كانوا من البدو أو الاجانب، فقد كثرت الشكوك حول أحد أهالي غزة المقيمين بالقنطرة ويدعى «يعقوب جويد» في مشاركة الأشقياء ومثيري المشاكل، وصار الجميع ينادي بعودته لموطنه ليتسريحوا منه فقُبض عليه مع تعيين خفراء على الطريق بالقنطرة.
أما الجواسيس الأجانب فقد حذّر محافظ العريش أحدهم واسمه «مسيو بيانكي» الذي يعمل ناظرًا من إرسال أي تقارير أو خطابات سرية للإنجليز أو حكومة الخديوي، وهدده بالموت بالطرد من الخدمة والإكراه على السفر إذا اكتشف أي خيانة.
بالمر.. الجاسوس الأهم
كانت خطة بريطانيا في البداية ترتكز على دخول مصر من ناحية قناة السويس، لذا سعت وزارة الحرب البريطانية إلى تجنيد الأهالي بالرشوة واسعة النطاق، وأسندت هذه المهمة لأحد علمائها الخبراء بسيناء وهو المستشرق «إدوارد هنري بالمر» أستاذ اللغات الشرقية بجامعة كامبردج.
كان «بالمر» يتقن العربية إلى درجة تأليف الشعر الفصيح، كما أن له ترجمة للقرآن الكريم، طاف بالكثير من نواحي مصر الشرقية خلال ثلاثة أعوام، حين شارك في مشروع «استكشاف فلسطين» من قبل والذي يهدف لمقارنة الأراضي المذكورة في الكتب المقدسة بالأراضي الحقيقة، وكانت نتيجة الرحلة عمله الموسوعي الجغرافي كتاب «صحراء الخروج».
وافق «بالمر» على تنفيذ مهمته باعتبارها عملاً وطنيًا له، وهو ضمان انضمام بدو شرق القناة إلى الجيش الإنجليزي عن طريق الرشوة، تظاهر بأنه تاجر إبل وارتدى الزي العربي التقليدي، واستخدم اسمه القديم «عبدالله أفندى» الذي اعتاد البدو أن ينادوه به، وحرص ألا يدخل سيناء عبر القاهرة أو الإسكندرية لكي يبعد عنه شبهة أنه إنجليزي.
نجاح جزئي لخطة بالمر
بسبب مظهره العربي ولهجته السليمة، استطاع «بالمر» التأثير على بعض مشايخ القبائل، فقد أحبوه لجودة شعره وحسن معاشرته، وحصل منهم على بعض المعلومات عن عرابي، فشعر أنه قادر على النجاح في مهمته بتجنيد أكبر عدد من البدو أو على الأقل جعلهم على الحياد.
نجح «بالمر» أيضًا في قطع خطوط التلغراف بين مصر والشام، لمنع عرابي من طلب النجدة، واتجه بعدها لمقابلة مشايخ البدو في منطقة نخل متحركًا من عيون موسى، ومعه اثنين من الإنجليز ومترجم سوري، وطباخ يهودي إلى جانب دليل من البدو.
توقيف بالمر
وكما ورد في كتاب «بسيناء المصرية عبر التاريخ» لإبراهيم أمين غالي، كان توغل «بالمر» في سيناء في هذا الوقت الحرج أمرًا مثيرًا للريبة والشكوك، ويدل على أن الغرض منه هو التجسس، مع وصول أنباء قدوم البريطانيين واحتلال الإسكندرية والقاهرة إلى أعماق السهول والوديان، لذا انقضت جماعة من البدو على البعثة قرب منطقة نخل وقتلت جميع أفرادها ماعدا الدليل البدوي لتجنب الثأر.
وما إن تمكن الإنجليز من السيطرة على البلاد حتى أرسلوا من يحقق في غياب رجلهم «بالمر» والانتقام منه خوفًا من المزيد من الدعم للثورة العرابية، بالفعل ألقت قواتهم القبض على 23 من الرجال المتهمين بقتل «بالمر» ورفاقه.
دنشواي الأولى
تشكلت محكمة عسكرية بطنطا لمحاكمة المتهمين، فحكمت على 11 رجلاً منهم بالإعدام شنقًا، واشترطت المحكمة أن يكون الإعدام علنيًا بحضور مشايخ البدو، أما باقي المتهمين فكان الحكم بالسجن لفترات مختلفة.
وهناك تشابهًا بين مصير أهل سيناء وأهل قرية دنشواي، فقد أعدموا جميعًا على يد المحتل البريطاني، غير أن حادثة دنشواي اشتهرت عن طريق كتابات المحامي «مصطفى كامل».