جنود القاهرة من الباشبوزق إلى النظام.. حكاية تأسيس جيش مصر
تأسيس الجيش المصري لم يكن مجرد قرار أصدره والي مصر محمد علي باشا، وإنما مرت الفكرة بمنعطفات وتحولات وواجهت عراقيل حتى تبلورت على أرض الواقع في العقد الثالث من القرن التاسع عشر. الحكاية كاملة رواها المؤرخ عبدالرحمن الرافعي في كتابه «عصر محمد علي».
غير النظاميين
أخذ محمد علي يؤسس الجيش المصري النظامي منذ سنة 1820، وكان الجيش قبل هذا العهد خليطاً من العناصر المفطورة على التمرد والفوضى يُطلق عليهم لفظة «باشبوزق» أي الجنود غير النظاميين.
ومثل هذا الجيش لم يكن جديراً بالاعتماد عليه في الدفاع عن مصر وتوسيع حدودها، لذلك فكر محمد علي منذ تبوأ عرش مصر في إنشاء جيش على النظام الجديد.
ولكن الظروف لم تكن تواتيه، فكان يؤجل إنفاذ فكرته إلى أن تحين الفرصة المناسبة، وقد لاقى صعوبات كبيرة في تحقيقها، لأن الجنود غير النظاميين الذين كان يتألف منهم الجيش القديم كانوا معتادين الفوضى والعصيان، ويكرهون كل نظام.
المحاولة الأولى
بعد عودته من حرب الوهابيين عام 1815 حاول محمد علي تنفيذ فكرته، لكن هذه المحاولة أخفقت وكادت تودي بمركزه لولا أن عدل عنها وأرجأها إلى وقت آخر.
ذلك أنه لما عاد من الحجاز أمر بتدريب فرقة من جنود ابنه إسماعيل باشا على النظام الحديث، وذهب هو لهذا الغرض إلى بولاق (كانت إحدى مقرات الجيش وبها ترسانة ضخمة لصناعة السفن) في أغسطس 1815 وأعلن رغبته في إدخال النظام الجديد في صفوفهم، وصارحهم بأن من لم يذعن لهذا النظام سُيعاقب على تمرده.
ولما عاد إلى مقره في قصر شبرا تذمر الجند من هذه الأوامر، فانتهز بعض رؤسائهم هذه الفرصة ليتآمروا على محمد علي، ويسعوا في خلعه.
كادت أن تفلح المؤامرة لولا أن القوم أفضوا باتفاقهم إلى عابدين بك، أحد رؤساء «الأرناؤد» وكان قد عاد من الحجاز مريضاً، فتوسم فيه المتآمرون الموافقة على مؤامرتهم وأجمعواعلى أن يهاجموا محمد علي في قصره بالأزبكية.
أفضى عابدين إلى محمد علي بهذا السر، فترك قصره وذهب إلى القلعة في منتصف الليل، ودخلها من طريق باب الجبل. توافد المتمردون إلى ميدان الأزبكية وتبادلوا مع حرس السراي إطلاق الرصاص، وعندما لم يجدوا بغيتهم ذهبوا إلى ميدان الرميلة (يقع بالقرب من قسم الخليفة)، ومن هناك نزلوا الأسواق ينهبون ويسلبون، إلا أن الوالي تذرع بالحزم والحكمة في معالجة هذه الفتنة حتى أخمدها، وأرجأ النظام الجديد في الجيش إلى وقت حتى يهيئ له وسائله.
استغلال الموقف
غير أن محمد على قابل حركة التمرد هذه بالحلم ورجاحة العقل، واستغلها لخدمة مشروعه في إنشاء جيش على الطراز الحديث قوامه النظام والطاعة، فبادر إلى إظهار استيائه مما أحدثه الجنود المتمردون، وقرر دفع تعويض لجميع التجار الذين نُهبت دكاكينهم، وعهد بتقدير ذلك إلى السيد محمد المحروقي كبير التجار.
دفعت الحكومة فعلاً التعويضات لمن وقع بهم النهب والاعتداء، فأثنى الشعب على محمد علي وسخط على الجنود المتمردين، وكان في هذا العمل أكبر دعاية للنظام الجديد الذي أخذ الباشا يهيئ الوسائل لإدخاله، ولكنه لم يبدأ به إلا سنة 1820.
رسائل الهزيمة.. هذا ما كتبه صلاح نصر من السجن الحربي
خطة التأسيس
مهد محمد علي لذلك بتشتيت الجنود غير النظامية وإخراجهم من العاصمة حتى لا يكون احتشادهم فيها مدعاة لتمردهم وتجديد الفتن، فوزعهم على الثغور الواقعة على البحر المتوسط كرشيد ودمياط، وبعض البلاد القائمة على فرعي النيل.
ولكيلا يسبق إلى قلوبهم أنه يقصد تشتيتهم أو معاقبتهم أمر بأن يرافقهم في معسكراتهم الجديدة بعض أبنائه كطوسون باشا وإسماعيل باشا، ورؤساء جنده، وأمر بإقامة ثكنات في البلاد التي أعدها لإقامتهم.
تزامن ذلك مع عزم محمد علي فتح مدرسة حربية في أسوان لتخريج ضباط الجيش، وكان من الضروري لإدخال النظام الجديد أن يختار ضباطاً ومعلمين على دراية بأساليب ذلك النظام، ولا مانع أن يكونوا من الأوروبيين، لأن هذه الأساليب كانت مجهولة في الشرق إلى ذلك الحين.
وجد محمد علي أملا كبيراً في ضابط فرنسي من ضباط الإمبراطورية النابليونية هو الكولونيل سيف الذي عُرف بعد ذلك بسليمان باشا الفرنساوي، الذي آزر محمد علي في تأسيس الجيش المصري.
حشد الجنود
أثناء تأسيس الجيش النظامي واجه محمد علي مشكلة تتعلق بحشد الجنود. لم يشأ في المبدأ أن يجند الأتراك ولا الأرناؤد في النظام الجديد لما فطروا عليه من حب الشغب والنفور عن النظام وعدم الطاعة.
ولم يشأ أيضاً أن يفاجئ المصريين بتجنيدهم حتى لا يثير الهياج في البلاد لأنهم لم يعتادوا التجنيد في عهد المماليك، فخشي إن هو عجل بحشدهم أن يعدوا ذلك عبئاً جديداً يثقل كاهلهم فوق أعباء الضرائب والإتاوات التي كانوا ينؤون بها، وخشي من جهة أخرى أن يؤدي تجنيدهم إلى حرمان مصر من قيامهم على الزراعة فتسوء حالة البلاد الاقتصادية.
لذا فكر أولاً في تجنيد السودانيين من سكان كردفان وسنار. لذا طلب من ابنه إسماعيل باشا الذي كان في السودان بعد فتحه أن يرسل له حشداً من السودانيين، فجاءه نحو عشرين ألفاً تم تدريبهم في بني عدي (تقع في أسيوط) على يد الضباط المماليك الذين تخرجوا في مدرسة أسوان الحربية.
تجنيد المصريين
على أن تجربة تجنيد السودانيين لم تصادف النجاح المرغوب. معظمهم تعرضوا للإصابة بالأمراض لعدم موافقة جو مصر لمزاجهم وصحتهم، ولأنهم لم يطيقوا أعباء الخدمة العسكرية، فأخذ محمد علي يفكر في الالتجاء إلى تجنيد المصريين، وأنشأ ثكنات لتدريب المجندين منهم في فرشوط (قنا) إضافة إلى ما أنشأه في أسوان وبني عدي.
لما شرع محمد علي في تجنيد المصريين قابل الفلاحون هذا المشروع بالنفور والسخط، ولم ينتظموا في صفوف الجندية إلا مكرهين لأنهم لم يألفوا الخدمة العسكرية، فكانت الحكومة تقبض على المجندين وتسوقهم قسراً إلى المعسكرات.
وجد محمد علي صعوبة كبيرة في تطبيع المصريين على نظام التجنيد، على أنه وُفّق في مسعاه بفضل المثابرة وقوة العزيمة، لأن الفلاحين بعد أن كانوا يهابون التجنيد رأو الحياة العسكرية أرفه وأحسن حالاً من معيشتهم في القرى طعاماً ولباساً ومظهراً، فأخذوا يألفونها ويعتزون بها.
ولما اتسعت دائرة التجنيد استدعى محمد علي من فرنسا طائفة من كبار الضباط ليعاونوه على تنظيم الجيش المصري، فتكونت طوائف الضباط المصريين على يد المعلمين الأوربيين، وأرسل طائفة من الشباب إلى أوروبا لإتمام دروسهم الحربية هناك، فعادوا إلى مصر بعد أن ألموا بالعلوم والفنون العسكرية، وحلو في المدارس الحربية محل المعلمين الأجانب.