ذكريات الطفولة للكاتب أحمد خالد توفيق يرويها أحد أصدقائه
فراق الأحبة مؤلم كانتزاع الأظافر. وقد ترك لى أحمد خالد ذكريات عمر بأكمله. كل الشجن، كل الحزن، كل اجترار الذكريات فى انتظارى.
كان عمرنا ثلاثة عشر عاما عندما تصادقنا لأول مرة فى ساحة مدرسة «سعيد العريان».
تلاقينا فى الفن والشعر والحديث الحميم، واستمرت علاقتنا مدى العمر. لم نفترق. لم نتخاصم. لم يجر بيننا ما يجرى بين الأصدقاء أحيانا من غيرة أو سوء تفاهم. كنت أعتبره «بطلى الموهوب الاستثنائى الذى يعرف أشياء عجيبة». وهكذا ظلت صورته فى عينى حتى فارق الحياة.
سبب صداقتنا فى الصف الثالث الإعدادى أننى راسلت مجلة «صباح الخير» وأرسلت لهم أول أشعارى، فنشرته بكل احتفاء.
«أشكو إليك مر العذاب وأنت لم لا تجيبى؟
ثم أرجو منك نظرة تطفئ لوعان قلبى ونحيبى».
المهم أن الخبر انتشر فى المدرسة، بالطبع لأننى أعلنته. تقدم نحوى فتى أسمر: «أنت أيمن الجندى الذى نشرت لك مجلة (صباح الخير)؟».
أومأت بالإيجاب، ولوحت بالمجلة فى فخر، وطبعا كنت أحملها فى الذهاب والإياب. قال لى فى خجل: «أصل أنا كمان باكتب شعر».
شعرت بالاهتمام، كما يشعر به كل اثنين لهما نفس الهوايات المشتركة فى عالم الصبيان الملىء بالصفع والركل والضرب بلا رحمة. ولم أكن أعلم وقتها أنه الصديق المنتظر الذى ستدوم صداقتنا مدى العمر.
فى اليوم التالى أعطانى دفترا صغيرا أنيقا صممه بنفسه «ولم أكن أعلم بعد مواهبه الفنية المتعددة: تقريبا يجيد كل شىء». لم أستطع الصبر حتى انتهاء الدرس، وضعت الدفتر على ركبتى، والمدرس يشرح، ولو شاهدنى لتلقيت علقة محترمة. وشرعت أقرأ فصُعقت.
لم تكن هذه أشعار ابن الثالثة عشرة أبدا!. كانت الموهبة تتوهج فى النظم والنغم والمعنى وحسن اختيار الكلمات. أحسست بقشعريرة وأنا أدرك أننى أمام عبقرية حقيقية لا يمكن منافستها:
«أبصرتها يوما حسناء منزوية..
دخلت علينا خلف الرتاج منطوية
وما انفكت تحدق فى دروب ملتوية».
للأسف لم تحتفظ ذاكرتى بالكلمات. لكنها كانت تحكى دخول حسناء مقرونة الحاجبين متضرجة الوجنتين إلى درس اللغة العربية بين مجموعة من الأولاد. بالطبع افترسوها بعيونهم حتى كادت المسكينة تتمنى أن تنشق الأرض وتبلعها. أنتم تعرفون حماس الذكور الذين أدركهم البلوغ لتوهم، وتدفقت فى دمائهم هرمونات الذكورة الهائجة. لاحظ أننا نتحدث عن السبعينيات، حيث لم يكن الاختلاط بين الأولاد والبنات قد تكرس بعد، وصار أمرا طبيعيا كما هو الحال الآن.
وهكذا كتب تلك الأبيات. وهكذا بدأت صداقة العمر، كما هو المعتاد فى قصص الصداقة الحقيقية التى تدوم العمر بأكمله، حين تبدأ فى ساحة مدرسة أو مدرجات جامعة. روعة البدايات، حين يكتشف الصديق كل شىء عن صديقه، وهو بالبراءة الأولى والتردد والخجل ومحاولة التماس طريقه فى دروب الحياة.
لاحظ أن أحمد خالد لم يكن قد صار نجما بعد، وإن تنبأ له الكثيرون بأنه عبقرية واعدة. أذكر أن أمى حينما قرأت قصصه ونحن فى الصف الثانى الثانوى، وكانت- رحمها الله- محبة للقراءة ذات ذوق سليم، فتنبأت له أنه سيصبح مثل نجيب محفوظ.
وحملت إليه هذه البشارة فتلقاها بالخجل المعتاد!.
قصة أخرى مضحكة عن صديق أبى، وكان معلم لغة عربية مثقفا، أريته أشعارى وأشعاره، فإذا به يبدى إعجابا شديدا بأشعاره، وأنا أحاول أن أجعله يعود إلى أشعارى، فينظر لى بعينين زائغتين محاولا أن يجاملنى، ثم يعود فيمسك أشعاره ويقول: «كم هو موهوب!».
ورويت له هذه القصة فضحك، وقال: «حاجة تغيظ فعلا».