هكذا حضر النبي محمد في أعمال الروائيين المسيحيين
تجاوز الكُتاب والروائيون المسيحيون انتمائهم الديني، واستجابوا للمؤثرات الإسلامية التي صبغت المعطيات الحياتية والثقافية المصرية، وليس أدل على ذلك من أن الرسول محمد (ص) كان حاضراً في أعمالهم الإبداعية للدلالة على موقف ما أو الإشارة لحدث اجتماعي أو سياسي جاء في سياق العمل.
«شبابيك» يستعرض نماذج من هؤلاء المبدعين المسيحيين وأعمالهم التي شهدت حضوراً للرسول الكريم.
جميل عطية إبراهيم
بحسب مصطفي بيومي في كتاب «النبي محمد في الأدب المصري»، لم تمثل العقيدة المسيحية لجميل عطية إبراهيم عائقاً أمام اتساع عالمه الروائي المتميز لموقع ثري يحتله النبي (ص). وتجلى ذلك في عدة محاور متداخلة ومتشابكة منها الأحاديث النبوية الشريفة، والقيم والأفكار الإسلامية، والعلاقة بين الدنيا والدين، وكذلك الدين والسياسة.
في رواية «1952» الجزء الأول من ثلاثية «إبراهيم» شارك الفقراء والمحبطون في التخريب والتدمير في أحداث حريق القاهرة في 26 يناير 1952، وكأنهم ينفسون بأفعالهم العدوانية عما يعانونه من الكبت والتمزق النفسي، وفي هذه الأثناء يظهر كرامة سرحان السقا الطالب المتفوق في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، والمولع بالشاعر والناقد الكبير ت.س.اليوت وقصيدته الشهيرة «الأرض الخراب»، وهو واحد ممن شاركوا في إشعال الحريق وساهموا في عمليات السلب والنهب.
يسأله الماركسي عباس أبو حميدة عن دوافعه وأسبابه، فتأتي إجابته الحماسية متكئة على حديث نبوي لا علاقة له بما يحدث: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه». وإذ يوبخه «عباس»: «وحرق الناس أحياء يا كرامة!!». يقول الفتى مبتئساً: «أرض خراب ونحن الرجال الجوف بالقش حشيت رؤوسنا».
وهنا تداخل دال بين الحديث النبوي الشريف وقصيدة «إليوت» ذات التوجه المختلف المغاير، وتجسيد فني أخاذ يمزج بين الظاهر والباطن، بين الدوافع الشكلية المعلنة والدوافع الموضوعية الكامنة. بمعنى أن ثورة الغاضبين والجائعين ليس محاولة لتغيير المنكر أو مقاومة الفساد، بل إنها تعبير عن البؤس واليأس، وتوافق مع الفهم المغلوط لقصيدة الشاعر الإنجليزي الكبير أكثر من محاولتها الفاشلة للاتساق مع الحديث.
يختلف الأمر عند الرفاعي محترف صيد الثعابين في رواية «أوراق سكندرية»، فهو يعتمد في عمله المتفرد على العهد والبركة، ويتحتم عليه أن يلتزم ولا ينحرف. عندما يقع في الخطأ، فإنه يبادر بالاعتراف والسعي إلى التوبة دون مكابرة، وليس مثل الحديث الشريف من مسعف يتيح لأبواب الأمل أن تنفتح. يستجمع الرجل قواه، ويقول في صدق لا زيف فيه ولا ادعاء: «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون». ثم يردف قائلاً «تبت إلى الله».
إنه يحفظ الحديث ويردده بلا تلعثم، فمن خلاله يعلن التوبة، ويتبرأ من المال الحرام، ويعاود التأكيد اعترافه بالتجاوز، وأمله في أن يتقبل الله توبته.
وفي «خزانة الكلام» استعانة مغايرة، فالحديث النبوي الشريف يرد في إطاره الصحيح الدقيق. عابد عبد المتجلي زوغلي يجد في المقولة النبوية نصاً شرعياً واجب النفاذ وتتحتم طاعته، ذلك أن ما يقوله النبي عليه السلام في حديثه أمر ديني لا يحتمل اللبس: «من فر بميراث وارث قطع الله ميراثه من الجنة» ويكمل «لا إيمان لم لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له».
يوسف الشاروني
اسم «محمد» هو أكثر الأسماء شيوعاً في العالم القصصي ليوسف الشاروني، والاسم الثاني في الانتشار «محمود»، وهو من أسماء النبي أيضاً. المستخلص من ذلك أن الإحساس المصري عند الشاروني يتفوق على انتمائه المسيحي، وهو في تعبيره الصادق عن الحياة المصرية يرصد ويخزن في ذاكرته الإبداعية ما هو كائن وموجود، ثم يعيد إنتاجه كمصري بغض النظر عن إسلامه أو مسيحيته.
يظهر اسم الرسول أيضاً في تكوينات شعبية شائعة مكررة في الحياة اليومية، ويتجلى ذلك بوضوح في قصة «العيد». يهرول الخادم الطفل «عبدالفتاح» عند عودته إلى القرية في إجازة قصيرة بمناسبة العيد: «وتركت أمي وأخي وعدوت بأقصى ما أستطيع إلى منزلنا خوفاً من أن يحسدني الناس لأنهم لا يرتدون ملابس جديدة كملابسي، ولأني أبيض البشرة أحمر الخدين أصفر الشعر، فإن من رأوني لن يلبثوا أن يقولوا «صلاة النبي، صلاة النبي على عبد الفتاح، شوفوا يا أختي أبيض زي الفل إزاي».
الملابس الجديدة والملامح الجميلة مما يثير الحسد في الحياة القروية، وتعبير «صلاة النبي» يجسد إحساس الناظرين وتسليمهم بتميز عبد الفتاح واستحقاقه للسموم المنبعثة من عيونهم التي يحمونه منها بهذه الجملة.
وفي قصة «سرقة أبلة بهية» تلتمس العجوز بهية من الرسول مساعدته لمواجهة حادث السرقة المباغت التي تعرضت له: «ي رسول الله اكشف غمتي، وارفع بلوتي». ولا تفصل بين رغبتها في زيارة الأراضي المقدسة وشوقها غير المحدود لالتماس العون من الرسول.
ويمثل الزواج طقساً يجمع بين الدنيا والدين في نسيج واحد، فهو ينهض على أسس تجمع بينهما، و«نجفة» في قصة «حلاوة الروح» تشعر بالفخر والسعادة لأنها ستتزوج ابن عمها الذي تحبه: «سعيدة لأنه أوشك أن يكون لها زوج على سنة الله ورسوله مثلما لسيدتها ووللنساء الأخريات».
وفي قصة «نشرة الأخبار» تظهر الإشارة المباشرة إلى الأحاديث النبوية الشريفة التي تحض على الزواج، ويقدم الشاروني نص حديث كامل هو الأكثر شيوعاً وانتشاراً عند العقد: «وكان الرجال يدخلون الشقة حيث كان الشيخ حسانين مبروك مأذون الحي يكتب عقد القران. فتلا الأحاديث النبوية عن الزواج، وذكر الحديث الشريف «تناكحوا تناسلوا فإني ماه بكم الأمم يوم القيامة».
ما يفعله الشخ حسانين المأذون يمثل مزيجاً متداخلاً من الديني والاجتماعي. الأحاديث النبوية الشريفة التي تحض وتشجع على الزواج، والإشهار العلني الذي يضفي على عقد الزواج المكتوب اعترافاً اجتماعياً شاملاً.
جرجي زيدان
أما جرجي زيدان فقد كتب سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. كان من بينها رواية «فتاة غسان»، التي تضمنت وصفاً لأحوال العرب منذ ظهور الإسلام علي يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مروراً بفتح مكة، وحتى عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما تم في عهده من اتساع لرقعة الحكم الإسلامي شمل العراق وفارس والشام.