ابن البلد.. من هو وكيف أصبح مع مرور السنين؟
يا ابن البلد يا ابن البلد
الوقت وقتك يا ولد
يا قلب مصر ونبضها
يا صبحها.. يا ابن البلد
يا ربحها.. يا ابن البلد
يا قمحها.. يا ابن البلد
يا رمحها
يا نور سماها وأرضها
يا ابن البلد
هكذا قال شاعر العامية الراحل أحمد فؤاد نجم في إحدى قصائده واصفًا فيها الكثير عن مصطلح «ابن البلد»، بخبرته بين البسطاء وعامة الناس.
لكن من هو «ابن البلد»؟ هل كان له شكل محدد وأسلوب معين في الكلام؟ ماذا فعل لينال هذا اللقب؟ وكيف أصبح الآن مع مرور السنين والأعوام؟
مواصفات ابن البلد
يحكي الكاتب والمؤرخ المصري أحمد أمين في كتابه «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية» عن مصطلح «ابن البلد» الذي حصل على شهرة كبيرة بين الناس، ويُطلق على شخص معين في الملبس والحديث والسلوك.
«ابن البلد» يجب أن يلبس جبة وقفطانًا وعمامة، ويجب أن تكون الملابس خفيفة النسيج، ولون الجبة زاهيًا لامعًا من الأزرق الفيروزي أو الأخضر الفستقي أو الأحمر القرمزي.
يجب أن يكون لون الجبة منسجمًا مع لون القفطان ولون الحزام منسجمًا مع كليهما، وإذا لبس الطربوش فيجب أن يكون خفيف الوزن، والحذاء لونه أحمر خفيف الجلد رقيق النعل.
وجه «ابن البلد» يجب أن يكون حليقًا كأنه خرج من عند الحلاق حالاً، وأظافره لا بد أن تكون مقصوصة بالكامل، وفي يده خاتمًا رفيعًا له فص من الفيروز أو الياقوت أو الزمرد.
أستاذ الأدب الشعبي بجامعة القاهرة خالد أبو الليل، يشير إلى التلاقي بين ملابس «ابن البلد» قديمًا وعراقة المصريين، فهو أكثر من عبّر عن بلده بملابسه ومظهره بكل اعتزاز، وكأن بلده أنجبته فصار ابنها بجدراة.
سلوك ابن البلد
ابن البلد يجب أن يكون خفيض الصوت، يتكلم ببطء ورقة وضحكته كأنها نغمات هادئة، وعند مشيه يحرص على نظافة ملابسه واستقامتها، ولو رأى أمامه بركة مياة يجتازها بحذر شديد حتى لا يتسخ حذائه، وبالمثل يأكل بهدوء كي يبقى ثوبه نظيفًا، وفق أمين.
هناك كلمات يستعملها ابن البلد كثيرًا في حديثه على سبيل الأدب واللطافة، منها «بلا مؤاخذة» و«بلا قافية» و«عن إذنك» و«اسمح لي» و«أكرمك الله» و«أعزك الله» و«يا سيد» وما شابه من الكلمات.
يحسن ابن البلد كذلك «التنكيت» ويستعمل في حديثه الكلمات التي تحمل أكثر من معنى، كي يمتع الناس من حوله بطريف حديثه، ولا يجرح أحد بكلمة قاسية أو كاذبة، وينهي الحوار دائمًا بنكتة لطيفة تلقى إعجاب الجميع.
يذكر دكتور «خالد أبو الليل» حقيقة أخرى عن «ابن البلد» وهي سعيه لحل المشاكل بين أهله ومعارفه، فلو رأى مشاجرة بين اثنين يفصل بينهما، وإذا شاهد الكبير احترمه وإذا رأى الصغير عطف عليه، هذه من الصفات الحميدة التي جعلت الناس تحبه.
سيدي العريان.. قصة قديس مسيحي يتخذه المسلمون ولياً
راجل ذوق
يسمى ابن البلد أيضًا «الذوق» فحين يقولون «فلان ذوق» فهذا يعني انه يراعي الذوق واللباقة كثيرًا في تعامله، وأحيانًا يُقال «ابن الذوق»، والفرق بين «ابن البلد» و«ابن الذوق» أن الأول يراعي الكلام والمظهر بنفس الشكل، أما الثاني فيراعي الكلام أكثر من المظهر.
قاسم أمين يذكر تعريف الذوق بأنه الشعاع اللطيف الذي يهدي صاحبه إلى أن يقول ويفعل ما يناسب المقام ويجتنب ما لا يناسبه، أي أن الذوق هو «الإتيكيت» وحسن التصرف الراقي في كل الأوقات.
قيل في الأمثال قديمًا «الذوق لم يخرج من مصر» ومصر هنا تعني القاهرة وحدها وليس القطر المصري كله، وهذه إشارة لحسن أخلاق وذوق القاهريين في هذا الوقت، كما أن لها تفسيرًا آخر.
يحكي أهل القاهرة عن رجل اسمه «حسن الذوق» كان على درجة كبيرة من الرقي واللباقة والأخلاق، لكنه غضب يومًا من جماعة من المصريين فقرر الرحيل من مصر كلها، وعندما وصل إلى «باب الفتوح» مات هناك ودفن في ضريح يُعرف بـ«سيدي الذوق» ما يزال موجودًا حتى الآن.
هكذا يقول المثل «الذوق لم يخرج من مصر» في إشارة لبقاء اللباقة والأدب في القاهرة، أو لبقاء «حسن الذوق» في ضريحه حتى الآن وعدم خروجه من القاهرة.
ابن البلد والحتة والنجع
تتعدد المصطلحات الشبيهة على غرار «ابن البلد»، فنجد أن هناك «ابن الحتة» و«ابن المنطقة» و«ابن النجع»، لكن الشواهد والأدلة تقول بأن المظهر والصفات القديمة تغيرت مع الوقت.
في سنة 1968 عُرض للممثل فريد شوقي فيلمًا بعنوان «ابن الحتة» ويجسد فيه دور «عجلاتي» يسعى للزواج بجارته الجميلة رغم الفقر والحاجة، هو أحد رموز منطقته أو «حتته» ويرتدي فيها القميص والبنطال التقليدي.
في وقتنا الحالي، يُلقب المطرب «محمد فؤاد» بابن البلد رغم أنه لا يرتدي جبة أو قفطان، بل لأنه ابن حي شعبي في الأساس هو عين شمس بالقاهرة، يقول في إحدى أغانيه «أنا ابن بلد أنا بفهم في الأصول».
ومؤخرًا جسّد الممثل ومغني الراب «أحمد مكي» شخصية ابن البلد في أحدث صورها، فهو الشاب مفتول العضلات الذي يدافع عن فتيات منطقته ويحسن الجيرة والصداقة، لكن ملابسه تغيرت تمامًا لتصبح ملائمة للعصر الذي يعيش فيه.
هكذا ربط المصريون بين العذراء والسيدة زينب وإيزيس
نسيان الهوية
أستاذ الأدب الشعبي بجامعة القاهرة خالد أبو الليل في حديثه إلى «شبابيك»، يرى أن السبب في تغير شكل وسلوك «ابن البلد» مع الوقت يرجع في الأساس إلى تأثر المصريين بالثقافات الغريبة عنهم دون الحفاظ على الهوية الأصيلة للشعب.
أشار «أبو الليل» إلى حقيقة تمسك كل شعب بملابس خاصة تميزه عن كل شعوب العالم، يرتيدها الناس سنويًا في يوم خاص للاحتفال بالتراث والثقافة الشعبية، لكن هذا لا يحدث في مصر وتقتصر الاحتفالات على الانتصارات الوطنية أو الأعياد التقليدية، لهذا كان من الطبيعي أن يتغير الرداء المصري على مر الأعوام.
مع الوقت نسي المصريون الجبة والقفطان وكل ما يميز «ابن البلد» في الماضي، وأطلقوا النكات على أهل الصعيد وملابسهم، واليوم لو ارتدى أي مصري هذه الملابس الكلاسيكية سيسخر منه الناس وربما يطلب منه أحد الشباب «صورة سيلفي».
سلوكيات «ابن البلد» نفسها كادت تختفي، فصار المصريون زاهدون في مساعدة بعضهم، يؤثرون السلامة حين تحدث مشاجرة ما، ولا يحترمون كبيرهم ويوقرونه كما في الماضي.
يؤكد «أبو الليل» أن آثار «ابن البلد» ما تزال باقية، والأخلاق الحسنة حية بين الناس، والمواطن في النهاية صارت حياته أصعب في السعي وراء لقمة عيشه، لكن يظل «ابن بلد» موجودًا حين الحاجة إليه.