محمد كريم.. المخرج الذي أنطق السينما المصرية
عرفت السينما المصرية بدايتها الحقيقية على يد المخرج محمد كريم بعد أن أحدث نقلة نوعية عندما انتقل بها من مرحلة الصمت إلى الكلام، وكذلك بعد أن أدخل فنوناً سينمائية جديدة وقتها. أحمد الجندي استعرض بعضاً من المحطات الفنية للمخرج الراحل في كتابه «صُناع السينما. نجوم الزمن الجميل».
المخرج الأول
بينما يرى نقاد وباحثون ومؤرخون أن محمد كريم ليس الرائد الأول للسينما المصرية، لكن الشيء المؤكد الذي لاقى إجماعهم هو أن «كريم» اقترن اسمه كمخرج سينمائي بلقب «الأول»، فهو أول مصري يدرس السينما والإخراج السينمائي في أوروبا، وهو أول مخرج يوجد علاقة بين الأدب والسينما من خلال أول أفلامه الذي أخذه عن رواية أدبية شهيرة.
هو أيضاً المخرج الذي أنطق السينما المصرية بعد أن كانت صامتة فهو مخرج أول فيلم مصري ناطق، وأيضاً هو أول مخرج يقدم فيلم «سكوب ألوان» في السينما المصرية في منتصف الخمسينيات، وهو أول مخرج يعود إليه الفضل في السينما الغنائية والتأسيس لهذا النوع من السينما، وهو أيضاً أول من أسهم في تأسيس المعهد العالي للسينما في مصر في نهاية الخمسينيات وهو أول عميد له.
ولكل هذه الإنجازات السينمائية غير المسبوقة وغيرها أصبح محمد كريم من الرواد الأوائل ومن صُناع السينما المصرية، وهو بالفعل يستحق لقب «المخرج الأول» ولقب «عميد السينما المصرية».
إيطاليا وألمانيا
ولد محمد كريم في 8 ديسمبر سنة 1896 بحي عابدين الذي يقع في قلب القاهرة ويعد من أحيائها القديمة والعريقة، أما أسرته فهي أسرة متوسطة تشير بعض المصادر إلى أن لها أصولاً تركية.
ارتبط «كريم» في طفولته المبكرة بالفن من خلال تأثره بسماع الموسيقى، ثم تطور الأمر عندما كان يذهب مع أسرته إلى مشاهدة بعض العروض المسرحية والغنائية للفرق الفنية التي كانت موجودة في هذا الزمن المبكر من القرن الماضي، ومن هنا بدأت الميول الفنية لمحمد كريم تأخذ منحى آخر، حيث تأثر بشدة بفنون التمثيل والعروض المسرحية، وكان عندما يعود إلى منزله يبدأ في تقليد الممثلين الذين شاهدهم على المسرح، وأصبح كل حلمه أن ينتمي لهذا العالم الفني الذي يراه.
في دراسته الابتدائية تعرف «كريم» على صديقه يوسف وهبي، ووقعا في غرام التمثيل والمسرح، وفي مرحلة الشباب انضما إلى فرق الهواة المسرحية. لكن «كريم» فكر في السفر إلى إيطاليا لدراسة السينما وشجعه على ذلك صديقه يوسف وهبي الذي سبقه وسافر إلى هناك لدراسة فن المسرح.
سافر «كريم» إلى روما في 21 أبريل 1921، إلا أنه لم يجد ضالته التي ينشدها وهي دراسة السينما، لأن دراسة كل الفنون كانت تتجه إلى المسرح، فقرر العودة إلى مصر، ثم قرر أن يسافر إلى ألمانيا حيث كان هناك بعض أصدقائه الذين سافروا ليدرسوا الطب والهندسة.
هناك وجد الظروف أفضل كثيراً بسبب أصدقائه الذين يسّروا له الإقامة وأرشدوه إلى دور السينما والأستوديوهات، وفي استوديوهات شركة «آدخا» السينمائية درس فنون الإخراج السينمائي على يد المخرج الألماني الكبير «فريتس لانج»، وأصبح مساعداً له في العديد من أفلامه.
لم يكتف «كريم» بذلك بل حصل على دورات تعليمية في فن كتابة وإعداد السيناريو، والمونتاج، والتصوير في العديد من المعاهد السينمائية هناك، ولم يتوقف عند هذا الحد عندما وجد الفرصة متاحة أمامه لإشباع هواية التمثيل فشارك في العديد من الأفلام كممثل إضافة إلى عمله كمساعد للإخراج.
العودة إلى مصر
والغريب أنه بعد أربع سنوات حصل «كريم» على عضوية نقابة الممثلين الألمانية وكان هذا عام 1925، وبدأ يحقق نجاحاً هائلاً في السينما الألمانية كممثل وكمساعد للإخراج والمونتاج والتصوير، لكنه رغم كل هذا النجاح قرر أن يعود إلى مصر ورفض الإقامة الدائمة والعمل في ألمانيا.
كان دافعه في ذلك إحساسه بوطنيته، ورغبته في تأسيس بداية حقيقية للسينما المصرية التي كان يسيطر عليها المخرجون والفنيون الأجانب، بينما كان يريد هو أن تكون السينما المصرية قائمة على الفنانين المصريين.
في 28 أغسطس سنة 1926 عاد «كريم» إلى مصر ومعه زوجته الألمانية التي تزوجها هناك وعملت معه مساعدة فيما بعد في كثير من أفلامه. وفي عام 1928 أخرج فيلماً تسجيلياً عن حدائق الحيوان لشركة مصر للتياترو والسينما، وظل يفكر في أول فيلم سيقدمه كمخرج، خاصة أنه كان لا يريد أن يكون فيلمه الأول مشابهاً لكل الأفلام السينمائية التي كانت سائدة في ذلك الوقت والتي لم تكن تتميز بالحبكة السينمائية ولا بالحرفية اللازمة.
لم يطل البحث والتفكير، فقرر أن يكون صاحب أول علاقة بين الأدب والسينما من خلال فيلم سينمائي مأخوذ عن رواية أدبية بعدما أعجبته رواية «زينب» للأديب محمد حسين هيكل، فذهب مع صديقه يوسف وهبي وقابلا «هيكل» وعرضا عليه المشروع فرحب بشدة وأعطاهما تصريحاً كتابياً بالموافقة على تحويل روايته للسينما بدون مقابل.
اكتفى يوسف وهبي بإنتاج الفيلم، فيما قام بالبطولة بهيجة حافظ، وسراج منير، وزكي رستم، وعُرض في 14 يوليو 1930، وحقق نجاحاً جماهيرياً هائلاً، واعتبره النقاد البداية الحقيقية للسينما المصرية.
السينما الناطقة
بدأ الحماس يدب داخل «كريم» و «وهبي» في تقديم أول فيلم ناطق بعد أن لاحظ أن جمهور السينما أصبح عازفاً عن مشاهدة الأفلام الصامتة، وعلى الفور كان التفكير السريع في فيلم «ابن الذوات» الذي لعب بطولته يوسف وهبي، وأمينة رزق، وسراج منير. حقق الفيلم نجاحاً مدوياً، واستقبله جمهور السينما بحفاوة بالغة كأول فيلم مصري ناطق.
قرر «كريم» أن يخوض مغامرة جديدة، فأقنع الموسيقي والمطرب محمد عبدالوهاب بخوض تجربة السينما، وكان هدفه في ذلك هو جعل السينما المصرية تغني بعد أن جعلها تنطق والتأسيس هنا كان للفيلم الغنائي.
بعد تردد وافق المطرب الراحل على بطولة فيلم «الوردة البيضاء» الذي عُرض عام 1933، وكان أول فيلم غنائي تعرفه السينما المصرية، وأول ظهور لـ«عبد الوهاب» على شاشة السينما، وأصبح الجمهور يراه بعد أن كان يستمع فقط إلى صوته دون أن يتعرّف على صورته.
لم يكتف محمد كريم بأفلامه التي قدمها في بداياته مع يوسف وهبي أو محمد عبدالوهاب، بل قدم أفلاماً أخرى حتى بلغ رصيده السينمائي ما يقرب من 30 فيلماً، منها «وخز الضمير»، و«جنون الحب»، و«دنيا»، و«قلب من دهب».
ومن الجديد الذي كان يشغله دائماً، تأسيسه لمعهد السينما في مصر من أجل تدريس فن السينما وتخريج جيل سينمائي مثقف مسلح بالعلم والثقافة السينمائية، وبالفعل كان أول عميد لمعهد السينما عام 1959، وهذا المعهد تابع حالياً لأكاديمية الفنون المصرية وفيه تخرج كبار مخرجي السينما وفنانيهم.