نجاة علي.. تعرّف على أول مطربة غنت في السينما الصامتة
لا يعرف كثيرون أن هناك مطربة سبقت أم كلثوم في غناء قصيدة «الأطلال»، هي نجية علي أحمد صيام، الشهيرة بـ«نجاة علي» التي ذاع صيتها في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. فما هي حكاية «نجية»؟ وكيف وصلت إلى قمة سلم الطرب وأصبحت منافسة وصديقة في نفس الوقت لـ«الست»؟.
زواج بالإكراه
على غير المألوف والمتعارف عليه لدى الفتيات، لم تفرح «نجية» عندما تقدم لخطبتها معاون الزراعة الذي يكبرها بأربعة عقود على الأقل، وهي بالكاد أكملت الـ12 من عمرها. فرفضت الزواج بشدة وكان والدها من أشد المؤيدين لها، على عكس والدتها التي أصرت على إتمام هذا الزواج بأي طريقة.
أدى هذا الخلاف داخل الأسرة إلى الانفصال بين الأم والأب الذي رافقته «نجية» لتقيم معه في «زبردينس» التابعة لمحافظة الدقهلية مسقط رأسها.
في المدرسة عُينت «نجية» رئيسة فرقة الأناشيد لامتلاكها صوتاً قوياً ذا خامة جيدة. وصل هذا الخبر إلى المسيو «ليتسو» المدير في شركة «أوديون»، فتأكد من جمال صوتها بعد أن استمع إليها وعرض عليها الذهاب للقاهرة لتسجيل بعض الأسطوانات من خلال الشركة التي يمثلها.
اعترض أعمامها على سفرها واشتغالها بالغناء، فوقف الأب لهم بالمرصاد وبدأ يعد العدة للسفر مع ابنته التي بدأت تعيش أحلام النجومية والشهرة التي تتطلب تغييرات كثيرة في حياة الفنان.
تمثلت أولى هذه التغييرات في اختيار اسم فني بديل يكون له وقع موسيقي في أذن المستمعين. من هنا بقي اسمها في شهادة الميلاد «نجية»، ويعرفها الناس باسم الشهرة «نجاة علي» المطربة التي حققت شهرة عربية واسعة.
هنا القاهرة
في طريقها إلى القاهرة برفقة والدها استشعرت بداية تحقيق حلمها، فاستعادت بخيالها، وهي تنظر من شباك الأتوبيس، اللحظات التي جمعتها بأم كلثوم عندما حضرت لإحياء حفلة في قرية قريبة من مكان إقامتها.
يومها قدمها أهل القرية لكوكب الشرق لتستمع إليها. غنّت لها «نجاة علي» أغنية «في البعد ياما» وهي لم تتجاوز الـ19 من عمرها، فلفتت انتباه «الست» وتنبأت بها يوماً وهي نجمة مشهورة.
عندما وصلت «نجاة علي» إلى القاهرة استمع إليها المسئولون في شركة «أوديون» فقررت الشركة أن تتكفل بمصروفاتها كافة والإشراف على تعليمها.
دروس الغناء
قبل البدء بتسجيل الأسطوانات أخذت تتلقى دروس الغناء والموسيقى على يد الموسيقار داوود حسني، ومحمد القصبجي، والدكتور أحمد صبري، وكلهم أدوا مهمتهم بسهولة وإتقان كونها حفظت القرآن الكريم وتعلّمت أحكامه، في ظل اهتمام والدها، مما كان له الأثر الإيجابي في صقل الصوت وتحكمها في مخارج الحروف.
أول خطوة قامت بها «نجاة علي» عندما بدأت تستقر في القاهرة هي إعادة المياه لمجاريها بين والديها، وبعد أن تمت المصالحة سكنت معهما في بيت بمنطقة شبرا وتكفّلت الشركة بإيجاره الشهري.
وفي منتصف عشرينات القرن الماضي بدأت تقدم أغانيها في الإذاعات الأهلية الخاصة التي كانت تبث إرسالها من مصر، وقدمت أول حفلة خاصة لها على مسرح الأزبكية عام 1929.
وعندما أطلق المذيع أحمد سالم عبارته الشهيرة «هنا القاهرة» في اللحظات الأولى لانطلاق الإذاعة المصرية، وتحديداً في 21 مايو 1935 كانت «نجاة علي» تشارك في حفل افتتاح الإذاعة مع أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وفتحية أحمد، وعبدالغني السيد.
السينما الصامتة
«نجاة علي» هي أول مطربة مصرية تغني في السينما الصامتة، وبالصوت فقط في فيلم «معجزة السماء» عام 1930 للمخرج إبراهيم لاما، وذلك من خلال الأسطوانات التي تدار أثناء المشاهد الصامتة.
واختارها الموسيقار محمد عبدالوهاب للقيام بدور البطولة معه في فيلم «دموع الحب» وغنّت فيه «يا فرحة القلب المشتاق»، و«صعب عليا»، واتبعتها بخمسة أفلام بعد ذلك هي: «شيء من لا شيء»، و«حب من السماء»، و«الحظ السعيد»، و«الشاطر حسن»، ثم فيلم «الكل يغني» حيث ظهرت معها المطربة نجاة الصغيرة التي كانت تعرف وقتها بـ«نجاة حسني البابا» وقامت بدور «نجاة علي» وهي طفلة، وذلك ضمن أحداث سيناريو الفيلم فأصبحت تعرف من يومها باسم «نجاة الصغيرة».
ورغم أن الفترة التي أمضتها «نجاة علي» في عالم الفن طويلة نوعاً ما، فإن عدد الأفلام التي قدمتها معدودة وهو ما عللته بأنها كانت مطلوبة كثيراً في الحفلات العامة مما شغلها ذلك طيلة الوقت.
اكتشاف السنباطي
مع كثير من المطربين كان الملحن رياض السنباطي هو القاسم المشترك في نجاح معظمهم، فمن خلاله تعلو أسهمهم. مع «نجاة علي» كان الوضع مختلفاً، فهي التي اكتشفت الملحن رياض السنباطي عندما كان مجرد عازف على العود بفرقتها، وقدم لها لحن «يا حياتي هجرني حبي»، فبدأ يعرفه الناس وكانت الخطوة الأولى له على سلم النجاح.
انعكس نجاحه في تقديمه مجموعة ألحان لها أحبها الناس، منها «أسهر وأداري سهاري»، و«يا ليالي في النوى»، و«يا دنيا فين النصيب»، و«قال إيه دلوقتي ما بيحبش»، و«يا ليل الروض غني»، و«التقينا بعد الغياب»، و«الدمع حاير في جفوني».
أطلال «الست»
لم تكن أم كلثوم هي أول من غنت «الأطلال» لإبراهيم ناجي، فقد سبقتها «نجاة علي» بغناء جزء من هذه القصيدة وكانت بعنوان «وداع» من ألحان المطرب محمد فوزي، ولم يشكّل ذلك أزمة بين المطربتين التي كانت علاقتهما متينة وودية.
وعندما حصلت كوكب الشرق على لقب «صاحبة العصمة» أرادت نقابة المهن الموسيقية إقامة احتفال بهذه المناسبة، وحين سئلت أم كلثوم عن من ترشح لإحياء هذا الحفل وبدون أدنى تردد اختارت صديقتها المقربة «نجاة علي».
قرار الاعتزال
قرار اعتزال «نجاة علي» جاء في اللحظة التي شعرت فيها أن حكم الزمن وآثاره بدأت تظهر على صوتها وشكلها، ولكي تبقى على صورتها في ذهن المشاهدين والمستمعين توقفت عن الغناء والظهور على الساحة الفنية في أواخر عام 1952 باستثناء مشاركاتها في المناسبات الوطنية، فعادت للغناء عام 1957 وقدمت أغنية للسد العالي كُرمت عنها من الرئيس جمال عبدالناصر.
ظروفها العائلية والأسرية لم تخل من المرارة وكانت عاملاً إضافياً لمغادرة الوسط الفني. زواجها الأول كان من الضابط أنيس الطوبجي والذي أنجبت منه ابنها الأول ممدوح، وبعد الزواج طلب منها التفرغ للبيت والأسرة فقط، ومع تراكم الخلافات قررت الانفصال.
ارتبطت «نجاة علي» بصداقة متينة مع فريد الأطرش وأسمهان، ومن خلال هذه العلاقة تعرفت إلى شقيقهما «فؤاد» وتزوجا، وحصلت على لقب أميرة، ولم ترغب «نجاة علي» في الإنجاب ما جعلها تعيش بأجواء خلافات وتوتر وآثرت الطلاق بعد سبع سنوات زواج.
زواجها الثالث كان من «السويفي» وهو من أصل سوري أنجبت منه ابنها الثاني «محمد» الذي أصبح لواء طيار فيما بعد.
التكريم الوحيد الذي حصلت عليه «نجاة علي» كان جائزة الجدارة عام 1978.
في شتاء عام 1992، صدر خبر في الصحف اليومية في زاوية صغيرة من الصفحات الداخلية يفيد برحيل «نجاة علي».