منيرة المهدية.. سلطانة الطرب التي اشعلت عوامتها ثورة 1919
رغم الظروف الصعبة التي مرت بها المطربة الراحلة منيرة المهدية، إلا أنها استطاعت أن تصنع لنفسها مكاناً بين الكبار وأن تلعب دوراً وطنياً قلما لعبه أقرانها في الوسط الفني.
بيت بسيط في قرية «مهدية» التابعة لمحافظة الشرقية، شهد ولادة زكية حسن منصور عام 1885. اليُتم كان قدرها حين تُوفيت والدتها وهي لازالت طفلة رضيعة في الشهور الأولى، بعد ذلك بسنتين توفى والدها وأشرفت على تربيتها أختها الكبرى المقيمة في الإسكندرية.
بقدر حب «زكية» للغناء وما تتمتع به من صوت جميل، كان لديها كره شديد للمدرسة، وكثيراً ما اشتكت منها المعلمات لغيابها المتكرر وعدم المواظبة على الدروس.
عادت لقريتها الأم بعد أن كُبرت قليلاً، وبدأت تغني في القرى والمدن المجاورة. وفي إحدى الحفلات تصادف وجود محمد فرح صاحب مقهى صغير في حارة «بير حمص» قرب باب الشعرية، واتفقت معه على العمل في المقهى الذي يمتلكه.
اضطرت لتغيير اسمها حفاظاً على تقاليد العائلة، فاختاروا لها اسماً «منيرة المهدية» بدلاً من «زكية»، والتي أصبحت أشهر مطربة مصرية في عشرينات القرن الماضي فيما بعد.
نزهة النفوس
في مقهى «محمد رجب» واظب أساطين (عظماء) النغم والغناء في القاهرة على حضور حفلات «منيرة»، مثل سلامة حجازي، وإبراهيم القباني، وسليمان القرداحي. وتواجد هذه الأسماء جاء بعد أن ذاع صيتها وحققت شهرة كبيرة أصبحت حديث الناس.
ومع زيادة إقبال الجمهور على حفلاتها، ارتأت منيرة المهدية أن تفتح مقهى خاصاً بها أطلقت عليه «نزهة النفوس»، والذي أصبح يجمع رجال الفن والفكر والسياسة، بالإضافة للصحافة التي أطلقت عليها عدة ألقاب، مثل «الست منيرة» و«مطربة الأزبكية الأولى» و«سلطانة الطرب».
ورغم كل هذه الألقاب عاشت «منيرة» حياة اجتماعية غير مستقرة، ففي عام 1918 تزوجت من محمود جبر أحد الشباب البارزين في العمل السياسي. ولم تجر الرياح كما تشتهي السفن، وكان الطلاق بعد أربع سنوات من الزواج.
عاشت حالة عصيبة بعد ذلك ما دفعها للسفر بجولة فنية استمرت 3 سنوات، قدمت من خلالها حفلات غنائية في بلاد عديدة منها لبنان، والعراق، وتركيا، وإيران، وفلسطين، وليبيا، ولقيت حفاوة بالغة وتكريماً يليق بفنها من بعض ملوك ورؤساء الدول التي زارتها.
وفي سوريا أبهرت الناس بفنها هناك ما دفع إحدى شركات الدخان لطبع صورتها على علب السجائر، وأطلقوا عليها «سجائر منيرة».
بعد هذه الرحلة عادت إلى مصر وتزوجت مرة أخرى من بطل المصارعة حسن كمال، وبعد طلاقهما تزوجت من شقيقه الأصغر إبراهيم كمال. نصيبها من هذه الزيجات كان انجاب ابنة واحدة فقط، عدّتها نعمة من الله وأطلقت عليها اسم «نعمات».
سيدة المسرح الأولى
اخترقت منيرة المهدية حاجزاً كبيراً وغير مألوف لسيدة في ذلك الوقت، وهو أن تظهر على المسرح. البداية كانت مع فرقة عزيز عيد التي كانت تنافس فرقة سلامة حجازي ذائعة الصيت آنذاك. وعلى الأفيشات استبقت منيرة المهدية اسمها بـ«الممثلة الأولى» بالرغم من أنها كانت تمثل على المسرح دور رجل.
ثم انفصلت «منيرة» عن الفرقة وكوّنت فرقة أخرى خاصة بها. أعادت من خلالها الأعمال الشهير لسلامة حجازي الذي كان يعاني المرض أواخر أيام حياته، ومن هذه المسرحيات «ضحية الغواية»، «صلاح الدين» و«على نور الدين»، وبدأت تقدم أعمالاً خاصة بها، مثل «كلام في سرك»، «كلها يومين»، و«حرم المفتش»، وقامت أيضاً بتمثيل وإخراج مسرحية «كارمن».
بهذا أحدثت منيرة المهدية النقلة النوعية في المسرح المصري خاصة بعد أن توقفت عن أدوار الرجال، في الوقت الذي كان يقوم فيه الرجال بأدوار النساء مثل مختار عثمان، وحسن فايق، وعمر وصفي، وحسن إبراهيم.
ومن هنا مهدت منيرة المهدية الطريق لظهور ممثلات مصريات على خشبة المسرح، في الوقت الذي كان هذا المجال محصوراً على فنانات من أصول شامية، أو أجنبية، أو يهودية، مثل ماري صرفان، وميليا ديان، ومريم سماط، وألماظ.
اكتشاف عبدالوهاب
منيرة المهدية هي صاحبة الفضل في اكتشاف محمد عبدالوهاب، وذلك بعد الموت المفاجئ لسيد درويش دون أن يتم لحن الفصل الثالث من مسرحية «كليوباترا».
وأسندت «منيرة» مهمة إتمام لحن المسرحية لعبد الوهاب، وأعطته دور البطولة في العرض. وأدى دور «أنطونيو» وكانت فرصته الكبيرة في التمثيل والتلحين، وبدأت مساحة دوره في المسرحية تزداد يوماً بعد يوم، وبرز أكثر كمطرب من خلال الأغاني التي أداها وهي من ألحانه أيضاً، حتى أخذ حضوره يطغى على دور منيرة في هذه المسرحية وبدأ النقاد والجمهور يلاحظون ذلك.
دور وطني
أدت «منيرة» دوراً وطنياً مهماً من خلال مسرحياتها وغنائها. ولا يُنسى دورها السياسي خلال ثورة 1919، فعندما كان المطربون محاصرين من الإنجليز، لم يتجرأوا على إغلاق مقهى «منيرة» كما فعلوا مع باقي المقاهي والمسارح الأخرى، لما تتمتع به من قوة شخصية وتأثيرها في الناس من خلال أغانيها وعلاقاتها بكبار رجال السياسة.
واستغلت «منيرة» هذه الامتيازات في تقديم أغانٍ وطنية تحث بها على الاستقلال، في الوقت الذى كان ممنوعاً التلفظ باسم الزعيم سعد زغلول لدرجة أن قائد الاحتلال أصدر أمراً عسكرياً بسجن كل من يذكر اسم سعد زغلول لمدة ستة أشهر مع الشغل وجلده 20 جلدة.
من هنا لجأت «منيرة» إلى الغناء لسعد زغلول بشكل غير مباشر ودون أن تلفظ اسمه، وأطلقت أغنيتها الشهيرة «شال الحمام حط الحمام.. من مصر السعيدة لما السودان.. زغلول وقلبي ماله.. أنده له لما احتاج إليه».
وانتشرت هذه الأغنية ورددها الناس في أرجاء مصر كافة حتى تحولت إلى ما يشبه النشيد الوطني.
غنت «منيرة» للفلاحين أيضاً وعلى لسانهم «الزبدة بلدي.. بلدي الزبدة» معبرة عن حال الفلاحين والفقراء، ولم تنسَ أن ترسل للأرياف عدداً كبيراً من أسطواناتها والتي لم يكن بمقدور الفلاحين شراءها رغم رخص ثمنها، لكن بعض المقتدرين من الأعيان حصلوا عليها وأداروها من خلال «فونوغراف»، وما لبث أن بدأ يستمع إليها الفلاحون معهم من خلال دوّار العمدة أو الساحات الخاصة ببيوت الميسورين.
استغلت «منيرة» نفوذها لدى أصحاب الشأن في إصدار العفو عن الكثير من الطلاب العاملين في الشأن السياسي. والحادثة الأغرب في حياتها عندما حاولت التوسط لدى الكثيرين لإطلاق سراح أحد الشباب المناضلين دون جدوى، ما اضطرها للذهاب إلى المعتمد البريطاني.
ورفض المعتمد طلبها إلا إذا كان خطيبها وتريد الزواج منه، فوجدتها حجة لإطلاق سراحه مؤكدة للمعتمد البريطاني ذلك، إلا أنه وليثبت كلامها فاجأها بإحضار المأذون الشرعي وعقد قرانهما في مكتبه مباشرة، وكان هذا زواجها الأول.
في كثير من الأحيان، كان مجلس الوزراء الذي يرأسه حسين رشدي يعقد جلساته في عوامة منيرة المهدية خاصة عندما أصدر البريطانيون قراراً بمنع التجمعات، فاجتمعت الحكومة في العوامة وعقدت جلستها التي كانت الشرارة الأولى لثورة 1919.
قبل الرحيل
في أواخر سنوات حياتها عاشت منيرة المهدية وحيدة. وعلى جدران صالون منزلها الأوسمة العديدة التي نالتها منها وسام العلوم والفنون من الرئيس جمال عبدالناصر، ووسام الفنون من الطبقة الأولى، والجائزة الممتازة في مسابقة الغناء المسرحي، ووسام من ملك مراكش، ووالي تونس.
مع كل ذلك لم يكن هناك من يطرق الباب أو يبادر بالسؤال عنها، وهروباً من هذه الوحدة من غير أنيس أو جليس اقتنت بعض الحيوانات الأليفة في عزلتها.
كثيرًا ما كانت تستعيد صدى الذكريات والشهرة التي عاشتها، ويمر في خيالها طيف المشاهدين والمستمعين الذين يعبرون عن إعجابهم برمي طرابيشهم باتجاهها على المسرح أحياناً، ومنهم من كان يرمى الذهب تحت قدميها وهي تؤدي وصلتها الغنائية!!
في ربيع عام 1965 توفاها الله، ولم يحضر جنازتها سوى 5 أشخاص، وهم حفيدها وثلاثة من أصدقائه وموظف من نقابة الفنانين.