1919.. حكاية ثورة عنيفة أشعلها الطلاب والعمال وخذلها الساسة
«لم يكن الظن بادئ الأمر أنها ثورة» فقد كانوا يعتبرونها مجرد مظاهرات أو احتجاجات بدأها الطلبة في الجامعات.. أطلقت عليهم قوات الاحتلال البريطاني بعض الرصاصات ثم سينتهي كل شيء في ساعات.. لكن الأمر خرج عن توقعات الجميع..
هكذا يصف عبد الرحمن الرافعي ثورة 1919 في كتابه « ثورة 1919: تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921».
الوضع السياسي قبل الثورة
كانت حالة مصر أثناء الحرب العالمية الأولى من أهم الأشياء التي مهدت للثورة.
وإذا رجعنا للوراء حتى عام 1840 فقد كانت مصر لها سيادة مستقلة بموجب معاهدة لندن التي تضمن عرش مصر في أسرة محمد علي باشا؛ تربطها سيادة اسمية بالدولة العثمانية، تتمثل في الجزية التي تدفعها مصر سنويا؛ كما يؤكد الرافعي.
تقلبات سياسية واقتصادية كثيرة عاشتها مصر منذ تلك المعاهدة؛ حتى وجدت بريطانيا مدخلا لفرض سيطرتها على مصر في الديون التي تراكمت عليها في عهد الخديوي إسماعيل. تزايد هذا النفوذ في عهد الخديوي توفيق وبالأخص بعد هزيمة الثورة العرابية في معركة التل الكبير عام 1882.
ماذا بعد الحرب العالمية؟
وحتى عام 1914 وعندما قامت الحرب العالمية الأولى، كانت مصر لا تزال دولة تابعة للسيادة العثمانية، وإن كان النفوذ البريطاني فيها يزداد يوما بعد يوم.
وقفت مصر على الحياد في هذه الحرب العالمية.. كان هذا ظاهريا فقط أو قبل أن تعلن بريطانيا فرض الحماية على مصر.. فما معنى هذا؟
كانت الفرصة سانحة لبريطانيا للمرة الثانية؛ فقد هددت تركيا بوضع مصر تحت الحماية إذا قررت المشاركة في الحرب. لكن تركيا لم تستجِب.
يقول الرافعي في كتابه: «تغير موقف مصر تبعا لسياسة بريطانيا في الحرب؛ فقد تعاملت مع مصر كمستعمرة بريطانية» وقُضي على مصر بقطع علاقاتها مع الدول المعادية لبريطانيا واستخدام الموانئ المصرية في الحرب.
وداخليا ضيقت بريطانيا كثيرا على الحركات السياسية والمصريين عموما؛ فقد تم وضع قانون يمنع التجمهر وقانون للرقابة على الصحف ثم إعلان الأحكام العرفية ووضع مصر تحت الحكم العسكري، وأخيرا وضع مصر تحت الحماية البريطاني، وخلع الخديوي عباس حلمي الثاني، وتنصيب السلطان حسين كامل سلطانا على مصر.
ومن هنا أصبح الجيش البريطاني هو المسئول رسميا عن حماية مصر.
اليهود في مصر.. بين الثراء والتأميم ثم الانقراض
دور الحركات السياسية
بدأت بريطانيا في ممارسة التضييق على الحركات السياسية المصرية، أبرزها الحزب الوطني، الذي أسسه الزعيم الراحل مصطفى كامل، وعاقبت رموزه بالنفي أو الاعتقال، لكن هذا لم يمنع من تصاعد حركات سياسية أخرى تطالب إسقاط الحماية البريطانية عن مصر.
وفي عام 1918 شكل سعد زعلول بمشاركة عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي، وفدا مصريا يسعى بشكل سلمي لاستقلال مصر عن بريطانيا.
كان على هذا الوفد أن يشارك في مؤتمر باريس للسلام لعرض القضية المصرية. لكن القدر لم يمهلهم حتى يتموا هذه المهمة، فقد اعتقلت بريطانيا سعد ورفاقه ونفتهم إلى جزيرة مالطا.
تظاهرات بدأها الطلاب
لم يكن الوفد المصري يخطط للقيام بثورة على الإطلاق، بقدر ما كان يهدف للضغط على بريطانيا دوليا وداخليا للحصول على الاستقلال.
لكن اعتقال الوفد المصري بهذا الشكل سبب في غضب كبير من الحركات السياسية. كان على رأسهم الحركة الطلابية التي قررت القيام بأول رد فعل عملي.
في فبراير عام 1915 قرر السلطان حسين كامل زيارة مدرسة الحقوق. يقول «الرافعي» إن الطلبة اتفقوا على عدم الحضور في هذا اليوم، وعندما وصل السلطان وجد المدرسة شبه فارغة؛ فكان هذا الإضراب أشبه بمظاهرة صامتة ضد الحماية البريطانية.. لم يمر الأمر بسلام وتم التحقيق وعوقب هؤلاء الطلبة بالفصل أو الامتناع عن الامتحان.
ويوم الأحد الموافق 9 مارس 1919 حدثت موقف مشابه لم يكن يعلم أحد أنه سينتهي بثورة.
في صباح الأحد امتنع طلبة مدرسة الحقوق عن حضور محاضراتهم. اجتمع الطلبة في فناء المدرسة، معلنين إضرابهم.. هتفوا بإسقاط الاستعمار وبحياة سعد زغلول الذي اعتقلته القوات البريطانية.
خرج الطلاب في مسيرة سلمية لمدرسة المهندسخانة ثم مدرسة الزراعة بالجيزة ثم انضمت لهم مدرسة الطب بقصر العيني ثم مدرسة التجارة حتى وصلوا إلى حي السيدة زينب؛ فأحاطهم البوليس الإنجليزي واعتقل بعضهم.
لكن حتى هذه اللحظة كانت المظاهرات سلمية تماما، ولم تكن أكثر من مظاهرة يشارك فيها طلاب المدارس العليا.. حتى حدث ذلك الشيء الذي حفز العامة للانضمام إليهم.
شرارة ثورة
يقول الرافعي أن حصان أحد الجنود الإنجليز داس قدم أحد الطلاب، الذي طلب من الجندي الانتباه فما كان منه إلا أن ضربه، ومن هنا اندلعت مشاجرة بين المتظاهرين والضباط وتدخل العامة الذين انهالوا بالضرب بالحجارة على الجندي الإنجليزي.
انتهى اليوم الأول من المظاهرات باعتقال 300 طالب بعد أن فرق الجنود الإنجليز الطلبة بالعصي، وأخلوا ميدان باب الخلق.
في اليوم التالي كان طلبة المدارس الأخرى وطلبة الأزهر قد علموا بالأمر، وقرروا المشاركة في الإضراب، وانضم إليهم في المسيرة كل من قابلهم في الطريق من العامة؛ وهتف الجميع بسقوط الحماية البريطانية.
استمرت مظاهرات الطلبة لأيام متتالية حدثت فيه بعض الاعتداءات على المحلات الأجنبية وحدث اعتداء على «الترام» وتحطيم للمصابيح واقتلاع الأشجار.
لكن الحركة الطلابية أذاعت منشورا في الصحف العربية والأوروبية تدعو فيه لالتزام الهدوء والسكينة، ودعوة كل مصري صميم للمشاركة في هذه الحركة. كما قدموا اعتذارا أيضا للمواطنين الأجانب التي تدمرت محلاتهم؛ وفقا للرافعي.
إضراب العمال
كان الإضراب الذي أصاب العاصمة كلها بالشلل وسمح بتصعيد العديد من المظاهرات والاضطرابات الأخرى هو إضراب السائقين؛ من سائقي الترام وسائقي الأجرة، حتى تعطلت جميع المصالح الأخرى في البلاد وأغلقت المحلات التجارية والبنوك.
تبع إضراب السائقين إضراب المحامين والقضاة؛ ثم تبعه إضراب عمال السكة الحديد في يوم السبت 15 مارس، بعد الأحداث التي عرفت بمجزرة مارس حين فتحت القوات البريطانية النار على المتظاهرين ومجموعة من المصلين خارجين من مسجد الحسين، ظنا منهم أنهم متظاهرين.
وفي يوم الأحد 16 مارس شاركت السيدات المصريات في المظاهرات احتجاجا على القتل والتنكيل الذي حدث في حق المتظاهرين.
الثورة في الأقاليم
يصف مصطفى أمين في كتابه «أسرار ثورة 1919» بأنها «ثورة شعبية أصيلة، خرجت من القرى والكفور قبل أن تخرج من المدن والبنادر. انطلقت من الأزقة والشوارع قبل أن تنطلق من الشوارع والميادين الواسعة.
فقد كادت المظاهرات أن تبدأ وتستمر ثم تنتهي في القاهرة؛ لولا ما حدث في المحافظات والتي نقلها من مفهوم المظاهرات إلى الثورة الشاملة.
ومن الطلاب في القاهرة استلم العمال والفلاحين هذا الاضراب الضخم في المحافظات ليبدأوا بتعطيل خطوط السكك الحديد. ولم يكتفوا بذلك بل قطعوا جميع خطوط الاتصالات بين القاهرة وهذه المحافظات بقطع أسلاك البرق والتليفون.
كانت الثورة في الأقاليم أكثر حدة وعنفا، شارك فيها الفلاحون جنبا إلى جنب مع إضراب العمال؛ فعمدوا إلى تحطيم خطوط السكة الحديد ومهاجمة أقسام الشرطة ومهاجمة الجنود الإنجليز والسفن التي كانت تنقلهم في النيل الذي أصبح الوسيلة الوحيدة للتنقل بين المحافظات؛ ومهاجمة كبار الملاك في هذه القرى أيضا.
هددت السلطات البريطانية بالتنكيل بكل من شارك في هذه الإضرابات وشارك في إيقاف حركة القطارات؛ حتى أنها حددت بإحراق قرى بأكملها إذ أقدم العمال على تحطيم خطوط السكة الحديد القريبة من هذه القرية أو تلك.
لماذا العمال والفلاحون إذًا؟
أسباب كثيرة دفعت العمال لمثل هذه الاحتجاجات الواسعة؛ ففي سنوات الحرب العالمية الأولى وبعد أن زادت الأسعار بنسبة ما بين 85% لـ159%، وإغلاق كثير من الأجانب لمشاريعهم في مصر، وتسريح العمال، ثم مقاومة تظاهرات العمال بقانون منع التجمهر.
كما تم إجبار الفلاحين على زراعة المحاصيل فقط التي تناسب احتياجات الحرب والجنود الإنجليز؛ ثم بيعها بأسعار زهيدة للغاية، وكانت تصادر ممتلكات الفلاحين من ماشية ومحصول للمساهمة في تمويل الحرب.
لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد فقد كان يتم تجنيد الفلاحين إجباريا في الحرب، للمشاركة في الأعمال التي تتم خلف صفوف القتال.
«كاسترو» وقصة نجاح الثورة الكوبية في سطور
زيادة الوعي.. سبب في الثورة
وبجانب تصاعد الغضب من الإنجليز على كافة المستويات، سواء ظهر ذلك في مطالب سياسية بحتة أو مطالب عمالية أو إضراب موظفي الحكومة الذين ثاروا ضد الامتيازات التي تمنحها بريطانيا للموظفين الأجانب دونا عنهم.. فقد كان هناك عاملا أكبر ساهم في إشعال هذه الثورة.
فرغم الظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة التي عانى منها المجتمع المصري خلال الاحتلال البريطاني، لكن الفترة ما قبل ثروة 1919 كانت من أهم الفترات في نمو الوعي المصري.
انتشار الصحف التي كتب فيها الكتاب والشعراء البارزين الذين كانوا يؤثرون في الشعب بمقالاتهم وتسجيلهم للمواقف والأحداث البارزة في المجتمع وكواليس التحركات السياسية.
كذلك ظهور العديد من السياسيين من الطبقة الوسطى مثل مصطفى كامل ومحمد فريد، الذين ساهموا في جعل الوعي السياسي غير محصورا في طبقة المثقفين أو الأعيان، بل توجهوا بخطابهم للطبقة الوسطى وكذلك فئات العمال والطلاب.
يقول الرافعي: «لم يكن لأحد أن يتخيل أن الفلاح الساذج البعيد بفطرته عن غمار السياسة وعواطفها أن يندمج فيها إلى درجة الثورة وخلع قطبان السكك الحديدية وقطع المواصلات».
ابحث عن قادة الثورة
«الشباب والعمال والفلاحون هم دائما وقود الثورة.. هذا ما يؤكد أستاذ التاريخ الحديث بجامعة حلوان، الدكتور عاصم الدسوقي.
يضيف الدسوقي لـ«شبابيك»: «هذه الفئات هي التي تتحرك في الشوارع ويصعدون الاحتجاجات الشعبية، ويمارسون كافة أشكال التصعيد مثلما حدث في ثورة 1919 من تعطيل لحركات السكة الحديد على سبيل المثال».
ينفي أستاذ التاريخ أن تكون للقيادة السياسية دور في تحريك الشعب.. يقول: «سعد زغلول نفسه كتب في مذكراته في المنفى أنه عندما تواردت إليه أنباء عن أعمال عنف في مصر، قال أن هذه الأعمال تضر بقضيتنا».
فقد كان القادة السياسيون يؤمنون أن البلد سينال استقلاله عن الإنجليزي من خلال الحوار السياسي.
كانت بريطانيا تعتقد أن الإفراج عن الوفد المصري سيؤدي إلى إخماد الثورة نهائيا؛ لكن الاحتجاجات استمرت على مدى شهور.
وهنا شكلت بريطانيا لجنة بقيادة ألفرد ملنر مدير المستعمرات البريطاني؛ وكان الهدف من هذه اللجنة هو الوصول لمصر للتحقيق في أسباب اندلاع هذه الثورة والتوصل إلى أسباب لإخمادها.
لكن قدوم هذه اللجنة إلى مصر كان سببا في اندلاع الاحتجاجات مرة أخرى التي كادت أن تهدأ قليلا في شهر أبريل بعد الإفراج عن الوفد المصري.
نهاية 1919 لصالح من؟
لم تنته الثورة في يوم وليلة، بدأت حدة الاحتجاجات تتراجع في أبريل 1919، لكن الاحتجاجات استمرت في الاندلاع.
وحتى هذه اللحظة كانت بريطانيا تبحث عن الأسباب التي أدت لاندلاع الثورة بهذا الشكل والتي اعتبرها المؤرخون أنها شهدت أكبر قدر من أعمال العنف والقتل الذي مورس في حق المصريين.
شكلت بريطانيا لجنة بقيادة ألفرد ملنر مدير المستعمرات البريطاني؛ وكان الهدف من هذه اللجنة، التي اجتمعت بالوفد المصري في 7 ديسمبر، هو الوصول لمصر للتحقيق في أسباب اندلاع هذه الثورة والتوصل إلى أسباب لإخمادها.
قررت بريطانيا التفاوض مع الوفد المصري لإنهاء هذه الأزمة. وصاغ كل من الوفد واللجنة عدة مشروعات للمعاهدة كان يرفضها الجانبين.
لكن أستاذ التاريخ الحديث بجامعة حلوان يرى أن الاحتلال البريطاني استطاع أن يخترق الجانب السياسي المعتدل من الثورة بقيادة عدلي يكن، للاتفاق على تصفية الثورة والاحتجاجات في مقابل إسقاط الحماية الشكلية عن مصر، وإلغاء الأحكام العسكرية، ووضع دستور 1923.
ويعلق الدسوقي: «لم يكن دستور 1923 من المطالب الشعبية وكان المستفيد من هذا الدستور هم كبار الملاك والقادة السياسيين. أما العمال والفلاحون والشعب بأكمله فلم يحصلوا على استقلال فعلي أو حتى عدالة اجتماعية، حتى إن بريطانيا رفضت الموافقة على إنشاء نقابات عمالية خوفا من التحرك الشعبي».