«خميس» و«البقري» وإضراب كفر الدوار.. حين أَعدم قادة يوليو عمال مصنع الغزل
المكان: مدينة كفر الدوار بمحافظة البحيرة. الزمان: أغسطس عام 1952 بعد مرور شهر واحد على ثورة يوليو.
الحدث: جريمة إعدام. حيث المدينة التي تعتبر أكبر المدن الصناعية في مصر وتحديدًا في شركة الغزل والنسيج، أضرب عمال الشركة عن العمل. أوقفوا صوت الآلات الكبيرة حتى يستمع قادة الثورة إلى صوتهم وهم يطالبون بحقوقهم، من عدل في الأجور وتخفيض ساعات العمل وتوفير رعاية صحية بعد أن أصيب الكثير منهم بالربو والأمراض الجلدية بسبب تعرضهم للمواد الكيميائية.
هذا فضلا عن الإهانات والعقاب الجماعي والفصل التعسفي، ونقل العمال دون إبداء الأسباب. هذه هي الحكاية كما يرويها كتاب «مذبحة كفر الدوار عام 1952 واستشهاد خميس والبقري» الصادر عن مركز «هشام مبارك للقانون».
لماذا يشعلون الإضراب بعد الثورة؟
كان العمال الذين شاركوا في الإضراب يعلقون الكثير من الآمال على ثورة 23 يوليو التي جاءت لتقضي على الإقطاع، والتي يعلن قادتها في كل زمان ومكان عن عزمهم على تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الأرض على الفلاحين، والانتصار لحقوق العمال.
6 آلاف عامل يتجمعون بفناء المصنع ويضربون عن العمل، ثم سترى شائعة بأن اللواء «محمد نجيب» شخصيا الذي تولى الحكم منذ أيام فقط، سيأتي ليسمع شكواهم؛ فما تلبث أن تشتعل هتافات العمال باسم العدالة الاجتماعية وباسم الثورة وباسم محمد نجيب. «يحيا اتحاد العمال» «مطالب العمال عادلة» «يعيش محمد نجيب» «يحيا القائد العام».
يسير الأمر كأي إضراب، يصل صدى هذه المظاهرات لمراكز الشرطة وقوات الجيش بالمدينة.. يخرج العمال للشوارع لينضم إليهم عمال من مصانع أخرى.. وعندما يصل الحشد إلى ترعة المحمودية ويعبرون الشاطئ الآخر، تخرج رصاصة تجاه قوات الجيش ليسقط أحد العساكر، وليتحول المشهد إلى ما يشبه الصدام قوات الجيش والشرطة من جهة، والمتظاهرين من جهة أخرى؛ يسقط العديد من العمال وتبدأ الاعتقالات والاتهامات التي توجه للعمال بالتخريب ومهاجمة قوات الجيش بل وقيادة مؤامرة تستهدف الثورة.
اعتقالات كثيرة حدثت ذلك اليوم، أعقبتها محكمات للمتسبيين في هذه الأحداث؛ هكذا تطالعنا مانشيتات الصحف في ذلك الوقت، التي تحدثنا عن طلب النيابة الإعدام في حق المتهمين، وعن وصف المتظاهرين بالخونة الذين يهاجمون قوات الجيش.. فماذا حدث حتى يصل الأمر لهذه الدرجة؟
هل هي مؤامرة كبرى؟
تمر عشرات السنوات على أحداث كفر الدوار، ولا زال الجميع يحيي ذكرى شخصيتين أساسيتين في هذه الأحداث، هم «محمد مصطفى خميس» و«محمد عبد الرحمن البقري» العاملين بالمصنع وكان لهما دور أساسي في قيادة المظاهرات.
لم يكن عمر «خميس» أو «البقري» قد تجاوز التاسعة عشرة، عندما صدر في حقهما حكما عسكريا بالإعدام بعد أقل من شهر على الأحداث وتحديدا في اليوم 7 سبتمبر 1952. كما تم الحكم على آخرين بالأشغال الشاقة ما بين 8 أعوام و15 عاما.
كانت المحاكمات عسكرية وسريعة للغاية؛ يشرف عليها مجلس قيادة الثورة برئاسة «عبد المنعم أمين».
وتحكي لنا مانشيتات الصحف في ذلك الوقت أنه تم إعلان الحكم أمام 1500 عامل من عمال المصنع.. كانت المحاكمة علنية وبالتحديد في نادي كفر الدوار الرياضي، الذي تجمع عمال المصنع فيه ليشاهدوا الأحكام في حق زملائهم ممن وصفتهم الصحف بالخونة.
ماذا قال محمد نجيب عن الأحداث؟
«في أغسطس 1952 وقع تمرد عنيف في مصنع غزل القطن بكفر الدوار، وخرجت مظاهرات أدت إلى قتل 9 أشخاص من بينهم اثنان من رجال الجيش وجرح 7 أشخاص، واشتعلت النيران في العربات والأشجار والمباني».. هذه هي القصة كما يراها الرئيس الراحل محمد نجيب، في كتابه «كنت رئيسا لمصر».
لا يذكر «نجيب» من المسئول عن هذه الأحداث التي يراها «تمرد» يقول في كتابه: «قيل لنا أنها محاولة من الشيوعيين للتخلص من الثورة ورجالها.. لا أعرف ما هو السبب الحقيقي.. لماذا تظاهروا ضدنا وكل تصريحاتي في ذلك الوقت كانت عن العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد».
وعندما يأتي توقيت الحكم بالإعدام على «خميس» و«البقري» ليصدق عليه يرفض ويشعر أن هناك حقيقة لم تظهر بعد، ويقرر أن يستضيف «مصطفى خميس» إلى مكتبه.
يدخل الشاب الذي لم يتجاوز التاسعة عشرة إلى مكتب الرئيس واثقا مرفوع الرأس، كما يصفه «نجيب».. يطلب منه أن يتعاون مع المدعي العام ليكشف عمن وراء هذه الأحداث من مؤامرات، فيرفض «خميس» ويؤكد أنه لا أحد يحرضه أو يقف خلفه.. ويقول: «لم أرتكب ما يستحق الإعدام».. فلا يجد «نجيب» مفرًا من التصديق على الحكم؛ رغم إقراره في سطور سابقة بأنه شعر أن التقارير الخاصة بالحادث تقارير كاذبة، أشبه بتقارير البوليس السياسي إلى الملك.
معارضة للإعدام داخل مجلس قيادة الثورة
«أيقظوني من النوم ليخبروني أن حركة مضادة للثورة قد نشبت في كفر الدوار، وأن العمال يشعلون الحرائق» كانت هذه رواية خالد محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة في كتابه «والآن أتكلم».
«محيي الدين» يقول أن «محمد نجيب» كان أكثر المتحميسن لأحكام الإعدام في حق «خميس» و«البقري» وانقسم مجلس قيادة الثورة إلى قسمين.
«نجيب» والأغلبية معه يؤيدون أحكام الإعدام لتكون رادعًا لأي تمرد بعد ذلك وجمال عبد الناصر ويوسف صديق وزكريا محيي الدين ضد أحكام الإعدام التي ستفتح الباب لإراقة الدماء، وصبغ ثورة يوليو بالدماء. وفق رواية خالد محيي الدين.
ومع شعور عميق بالضيق والغيط لتورط الثورة في إعدام المواطنين واحتجاجات عالمية واسعة؛ نفذت أحكام الإعدام ضد اثنين من شباب العمال. وصممت أغلبية أعضاء المجلس على موقفها وسط سيل البرقيات الهائل الذي انهمر علينا من الخارج مطالبا بعدم تنفيذ أحكام الإعدام.. كما يخبرنا كتاب والآن أتكلم.
هل صمتت القوى السياسية أمام الأحداث؟
«صمت الجميع صمتا مريبا أفسح المجال للتأويلات والأوهام، إلا بعض المنظمات الشيوعية الصغيرة التي أعلنت تأييدها للعمال إلا أن صوتها كان خافتا لم يصل إلى أسماعنا».. هكذا يلخص محيي الدين موقف الجميع.
«جماعة الإخوان المسلمين بدأت في شن حملة عاتية ضد عمال كفر الدوار المضربين واتهمتهم بالخيانة. وحتى منظمة حدتو الشيوعية نظرت إلى الإضراب نظرة مستريبة».
بهذه الكلمات يمر عضو مجلس قيادة الثورة مرورًا سريعا على موقف القوى السياسية منها.
أما الدراسة التي أعدها مركز «هشام مبارك للقانون» فتوضح أن الجميع إما أنهم كانوا يرون الأحداث انقلابا على الثورة والجيش أو مؤامرة من الاستعمار.
أصدر «مصطفى النحاس» رئيس حزب الوفد آنذاك بيانا يستنكر فيه أعمال الشغب ويدعو العمال إلى الهدوء والعمل المثمر وكتب القيادي بجماعة الإخوان سيد قطب مقالًا يقول فيه أن الإضراب من صنع أخطبوط الاستعمار والرجعية.
أما حركة حدتو الشيوعية التي يذكر «محمد نجيب» أن هناك احتمالات بأنها مدبرة الأحداث، فيقول الكتاب أنها استنكرت الإضراب وظلت الحركات الشيوعية الأخرة في كفة مقابلة تدين الإضراب وإعدام «خميس» و«البقري».
في النهاية يلخص «محيي الدين» الأمر في كلمتين.. لم يكن أحد يناقش حق العمال في الإضراب أو حقوقهم النقابية.. كان بمجلس قيادة الثورة من هم معادون لحقوق العمال.. انحسر النقاش في إعدام أم لا.. وكان رفض الإعدام لأسباب سياسية فقط.