سر الأبواب الـ9.. حكاية أسوار القاهرة القديمة
فور أن أتم جوهر الصقلي قائد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي فتح مصر في سنة 969 أخذ في تنفيذ تعليمات الخليفة له بأن يؤسس في مصر مدينة تكون عاصمة للدولة العالمية الشاملة التي حلم بها الفاطميون لتضم جميع الأراضي الإسلامية، فتأسست القاهرة.
وإذا كانت الصحراء تمثل سوراً طبيبعاً لمصر، فإنها لم تكن كذلك بالنسبة للقاهرة، فقد كان السور ضرورة استراتيجية لها منذ البداية، خاصة أن مدن الفاطميين الأولى التي أقاموها قبل القاهرة كانت مسوّرة مثل المهدية في القيروان.
السور الأول وتسعة أبواب
بنى جوهر الصقلي سور المدينة الأولى من الطوب اللبن على شكل مربع طول كل ضلع من أضلاعه 1080 متراً، حيث كانت مساحة القاهرة في أول تأسيسها مليون و166ألف و400 متراً مربعاً. وكان السور سميكاً بقصد تمكين الرجال المكلفين بالدفاع عنه من سرعة التجمع عند أي نقطة معرضة لأن يتسورها الأعداء أو يهاجمونها، فإذا لم تكن الاستحكامات سميكة سمكاً كافياً لما استطاع المحاصرون أن يقاوموا صفاً واحداً من الرجال المهاجمين للحصن.
كان السور الجنوبي المواجه لمدينة الفسطاط، والسور الشمالي المواجه للصحراء الممتدة إلى الريدانية (العباسية حالياً) والمطرية، هما السورين الرئيسيين للمدينة واللذين جرى دعمهما وتقويتهما في فترات متتالية، باعتبارهما مواجهين لمواطن الخطر التي كان يُخشى منها على القاهرة، بينما كان جبل المقطم في شرقي المدينة يكفل لها حماية طبيعية، والخليج والنيل في غربيهما يضمنان لها حماية مماثلة.
وجعل جوهر الصقلي للمدينة 9 أبواب لا يوجد منها الآن أي أثر، ولم تكن تشبه أبواب الحصون، بل كانت مجرد أقواس يُعبر من خلالها وتُغلق أبوابها على المدينة كل مساء.
ففي وسط السور الجنوبي بنى جوهر الصقلي بابين متلاصقين أُطلق عليهما بابا زويلة نسبة إلى إحدى قبائل البربر التي جاءت مع جوهر الصقلي من المغرب، وكان بالباب الشمالي بابان متباعدان هما باب الفتوح على يسار الخارج من القاهرة، وباب النصر على يمين الخارج منها.
أما سور القاهرة الشمالي فظل محاذياً لشاطئ الخليج (مكانه الآن شارع بورسعيد)، وفتح فيه جوهر الصقلي في أول الأمر بابين هما باب الفرج وموضعه الآن المكان الذي تشغله مديرية أمن القاهرة ومحكمة جنوب القاهرة بميدان أحمد ماهر، وباب سعادة نسبة إلى سعادة بن حيان أحد قادة المعز وموضعه الآن نهاية شارع درب سعادة من جهة شارع الأزهر.
وعندما بدأ تهديد القرامطة لحدود مصر وخُشى منهم على القاهرة، أقام جوهر الصقلي في سنة 971 في أقصى شمال السور الغربي باباً أطلق عليه باب القنطرة، لأنه بنى أمامه قنطرة على الخليج ليعبر منها لمنازلة القرامطة بعيداً عن القاهرة. ويمكن تحديد موضعه عند مدخل شارع أمير الجيوش تجاه مدرسة باب الشعرية الآن.
أما السور الشرقي فكان به بابان، أحدهما يعرف بباب القراطين، والآخر إلى الشمال منه ويعرف بباب البرقية.
القصر الفاطمي الشرقي
في قلب مدينة القاهرة القديمة، وفي مواجهة المآذن الشاهقة للمساجد المملوكية الضخمة الكائنة الآن في شارع المعز لدين الله، كانت تقوم منذ أكثر من ألف عام ولمدة تزيد على قرنين ونصف القرن الواجهة الغربية (الرئيسة) للقصر الفاطمي الشرقي الكبير.
والقصر الفاطمي الشرقي عبارة عن مجموعة من الأبنية والقصور الصغيرة أطلق على مجموعها «القصور الزاهرة»، ولم تكن هذه الأبنية وليدة عام واحد أو من عمل حاكم واحد. فقد ساهم كثير من الخلفاء والوزراء منذ جوهر الصقلي حتى اكتمل بناؤه في زمن المستنصر بالله في منتصف القرن الـ11 الميلادي، فيما عدا بعض إضافات صغيرة ألحقت بالقصر في زمن الخليفة الحاكم بأمر الله.
وكان هناك سور يحيط بالقصر، إلا أنه لم يكن منفصلاً عنه بل يمثل الواجهة الخارجية لمباني القصر، بحيث أن أبواب القصر كانت تُفتح مباشرة على دهاليز تقود إلى قاعاته وملحقاته. وقد زال الآن كل أثر لهذا القصر.
وعندما اكتمل بناء سور القصر كانت له 9 أبواب، ثلاثة في الحائط الغربي هي باب الزهومة، وباب الذهب وباب البحر، ومثلها في الحائط الشرقي هي باب قصر الشوك، وباب الزمرد، وباب العيد، واثنان في الحائط الجنوبي هما باب الديلم، وباب تربة الزعفران، وواحد في الحائط الشمالي هو باب الريح، وكان أعظمها وأكبرها هو باب الذهب الواقع في وسط الواجهة الرئيسة للقصر.
أسوار بدر الجمالي
ومع التطور المتنامي لمدينة القاهرة زال القسم الأكبر من أسوار القاهرة، وتتابعت المباني خارج الأسوار الجنوبية والشمالية للمدينة والأحياء الجديدة التي وجدت اعتباراً من عصر الخليفة الحاكم بأمر الله، لذا بدأ القائد الفاطمي بدر الدين الجمالي فور وصوله إلى قمة السلطة عام 1073 في زمن الخليفة المستنصر مشروعاً لتدعيم سور القاهرة وتحصين المدينة.
بدأ «الجمالي» في عام 1087 مشروعاً كبيراً لتوسعة وتحصين القاهرة ببناء أول سور جدير بهذا الاسم، وفتح أول أبواب محصنة عسكرياً في هذا السور، وأدخل في نطاق السور الجديد كل المساحة المحصورة بين أبواب جوهر الصقلي، وأبواب سوره الجديد.
وكان من بين هذه الأبواب المحصنة باب النصر الذي نقل مكانه عن ذلك المكان الذي بناه فيها القائد «جوهر» إلى حيث مكانه الآن، كما بنى باب الفتوح، وما زال موجوداً حتى الآن في موضعه أيضاً، وكذلك باب البرقية (التوفيق) الذي كُشف عنه مصادفة عام 1957 أثناء رفع التلال التي كانت تفصل المدينة عن قرافة المماليك لفتح طريق صلاح سالم وشارع الدراسة.
وبنى «الجمالي» أيضاً باب زويلة، والذي ارتبط تاريخ القاهرة به، ففور الفراغ من تأسيسه أضحى أكثر أبواب المدينة استخداماً فهو حلقة الوصل بينها وضواحيها الجنوبية حتى الفسطاط، وهو المنفذ الوحيد الذي سيصل المدينة في العصور التالية بقلعة الجبل.
وبنيت هذه الأبواب الثلاثة على طراز جديد يذّكر بأسلوب البناء المعروف في شمال سوريا والتحصينات البيزنطية، ويذكر المؤرخ أبوالمكارم سعدالله أن المهندس الذي صممها يُعرف بيوحنا الراهب، بينما يذكر تقي الدين المقريزي أن «ثلاثة إخوة قدموا من الرّها بنائين بنوا باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح، كل واحد بنى باباً».