هـ.ج.ويلز.. حكاية الأديب الذي حذّر من القنبلة الذرية فألهم البشر بصنعها
لا شك أنك سمعت من قبل عن آلة الزمن التي تنقلك عبر الماضي والمستقبل، ماذا عن طاقية الإخفاء التي تحجبك عن العيون؟، كم مرة رأيت فيلمًا عن الفضائيين القادمين لاحتلال الأرض؟
كل هذه الأفكار خرجت من عقلية «هربرت جورج ويلز» أديب الخيال العلمي المتشائم الذي عانى من حياة صعبة، لدرجة أنه توقع القنبلة الذرية قبل صناعتها، وألهم العلماء بها.
الإصابة.. رب ضارة نافعة
ولد «هربرت جروج ويلز» في 21 سبتمبر 1866 لأسرة فقيرة في مقاطعة «كنت» بانجلترا، وبدأ حبه للقراءة والعلوم منذ طفولته بسبب حادثة مؤلمة أثناء اللعب مع رفاقه.
عندما ألقى به أحد أصدقائه بعنف على الأرض كسر ساقه فورًا، فقضى في الجبس شهرًا كاملاً يصرخ من الألم، لكن التئام الساق لم يكتمل بشكل صحيح فاضطر الطبيب إلى إعادة كسرها.
بالإضافة للألم الشديد، ظل «ويلز» الصغير في سريره عامًا كاملاً كي تتعافى قدمه، فاستغل هذه الأوقات الطويلة في قراءة كل الكتب الممكنة لفقير مثله، لتتفجر موهبته منذ الصغر، ويبقى مدينًا للحادثة طيلة عمره.
الفقر الشديد
كان والد «ويلز» يملك متجرًا لبيع الأواني الصينية، ويمارس عملاً آخر كمدرب رياضي حتى يستطيع الإنفاق على أسرته، لكن فجأة يفلس المتجر وتضطر الأم للعمل كخادمة في عزبة بعيدة.
كان الأديب الصغير يزور والدته في العزبة بين الحين والآخر لتجذبه حياة الأثرياء ويستوحي منها فيما بعد شخصيات قصصه وكتبه، لكن بمجرد أن بلغ الرابعة عشر أمره أبوه بالبحث عن عمل هو الآخر.
التحق بمتجر لبيع الأقمشة ليشهد الفقر والمعاناة، فقد أجبره صاحب المتجر على العمل لمدة 14 ساعة بدءًا من فجر اليوم، ومع هذا طرده صاحب المتجر في نهاية الشهر الأول.
كان العمل التالي في صيدلية لم يستمر فيها هي الأخرى، ليعود إلى بيع الأقمشة في متجر آخر ويقضي فيه عامان هذه المرة مرغمًا على العمل، حتى هرب منه إلى بيته متوسلاً لأهله كي يبحثوا له عن عمل آخر.
5 أفلام خيال علمي تغيّر مفهومك عن الفضاء
منحة بعد المحنة
يعترف «ويلز» أن كل هذه الظروف الصعبة أفادته، فقد اعتاد بسببها على العمل والاجتهاد بعد أن كان طفلاً كسولاً، ولم يتوقف خلالها عن الهرب إلى عالم القراءة الذي يعشقه.
هنا يحصل القارئ الصغير على وظيفة حارس في مدرسة، لينهل من كتبها ويتعلم اللغة الإنجليزية أثناء عمله، حتى حان موعد الامتحان ليتفاجأ التلاميذ بحارس المدرسة يمتحن مثلهم.
يبتسم الحظ وتثمر جهود «ويلز» أخيرًا، ينجح بتفوق ويحصل على منحة لدراسة الأحياء بكلية العلوم في العاصمة لندن، ليتتلمذ هناك على يد أعظم الأساتذة في الأحياء.
متاعب أخرى
أنهى «ويلز» الدراسة وحصل على وظيفة في التدريس، لكن المتاعب لا تنتهي بسرعة في حياته، فقد تعرض لإصابة أخرى أثناء لعب الكرة وداسته أقدام اللاعبين ليصاب بنزيف قوي جعله مهددًا بالموت.
حتى مع الإصابة الشديدة، لم يكن أديبنا ناجحًا في زواجه الأول من ابنة عمه، هكذا حدث الطلاق ولكنه ظل في حاجة إلى شخص بجانبه حتى يعتني به بعدما ضعفت صحته.
قرر «ويلز» الزواج من إحدى تلميذاته وأخبرها صراحة بأنها لن تكون زوجته فقط وإنما ممرضته أيضًا، فوافقت الفتاة وتعلمت فنون التمريض في بيتها لترعى زوجها حتى جاء الفرج الكبير.
الموهبة والنجاح
أحد تلامذة «ويلز» أصبح ناشرا صحفيا في بريطانيا، وتعلم منه أديبنا فن الصحافة ثم بدأ يكتب القصص والمقالات التي لم تعجبه شخصيًا، فقرر حرقها كلها والبدء من جديد بدمج حبه للعلوم بالأدب.
كانت البداية الحقيقة مع رواية «آلة الزمن» عام 1895، حقق الكتاب نجاحًا عظيمًا لفت إليه الأنظار ليكتب سسلة أخرى أشهرها «الرجل الخفي» و«قصص الفضاء والزمن» و«الرجل صانع المعجزات» مع الكثير من المقالات.
لا يكتفي «ويلز» بقصص الخيال العلمي، بل كتب عن طفولته المعذبة في العمل والفقر، مستغلاً عمله في متجر الأقمشة ضمن رواية «كيبس» و«الحب والسيد لويس هام» وغيرهما.
مع نجاح الرجل الكبير تدفقت عليه الأموال فاستطاع علاج جسده بالكامل من إصابته، وعادت زوجته ربة منزل عادية بدون دور الممرضة، ليعيش بعدها الأديب 50 عامًا كاملاً من الإبداع.
القنبلة الذرية وأفكار أخرى
تميز أدب «ويلز» بميزة هامة جعلته حيًا حتى وقتنا هذا، أنه احتوى الكثير من العمق الإنساني والفلسفة ولم يقتصر على المغامرة المبهرة فقط مثل أدباء الخيال العلمي في وقته، كما تنبأ بالعديد من الأمور المستقبلية التي حدثت فعلاً مثل الصعود إلى القمر.
توقع في روايته «آلة الزمن» مستقبلاً كابوسيًا للأرض ضد العدل والمساواة، فقد كان صاحب نشاط سياسي كبير في الفكر الاشتراكي، وظل يحلم بعالم مثالي يخلو من الفقر والحروب، لكنه تخلى عن كل هذه الأحلام مع قيام الحرب العالمية الأولى.
في هذا الوقت كتب روايته «العالم يتحرر» عن قنبلة نووية قادرة على تدمير مدينة كاملة، كان يقصد التحذير من اختراع مدمر كهذا، لكن أحد علماء الفيزياء اعترفوا فيما بعد أن قصة «ويلز» ألهمته بصناعة القنبلة الحقيقية اعتمادًا على النظرية العملية في الرواية.
أكمل أديبنا مشواره بكتابة أعمال أخرى خارج الأدب، مثل «تاريخ قصير للعالم» الذي لخص فيه العصور الإنسانية منذ عاشت الديناصورات حتى عصرنا الحالي، كما ظل يكتب المقالات الفكرية حتى لقبه البعض أحيانًا بفيلسوف الصحافة.
النهاية
يعتبر «هربرت جورج ويلز» كاتب الخيال العلمي الأبرز في التاريخ بعد «جول فيرن» الفرنسي، بالإضافة لثقافته وفلسفته التي جعلت النقاد يضعونه في منزلة أعلى من الأول أدبيًا.
ظل متشائمًا حتى رحل عن دنيانا سنة 1946، وكتب قبل وفاته بأيام مقالاً عن أخطار القنبلة الذرية، أما الكلمات التي أوصى أن تُكتب على قبره لتحذير البشرية فكانت «لقد أنذرتكم.. أيها الأغبياء».