دوستوفيسكي العائد من الموت.. دروس ملهمة للشباب مع أشهر أدباء روسيا

دوستوفيسكي العائد من الموت.. دروس ملهمة للشباب مع أشهر أدباء روسيا

في عمر 24 سنة فقط، كتب فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي أولى أعماله الأدبية، ليصبح بعدها من أشهر أدباء روسيا، لكن حياته احتوت العديد من المآسي والمشاكل.

«دوستوفيسكي» تحول من مغرور يهوى القمار، ومصاب بالصرع إلى قامة أدبية كبيرة. في هذا التقرير من «شبابيك» نعرض لأهم الدروس من حياته، خاصة في شبابه حتى نبوغه.

غّير المسار إذا لم يناسبك

رسم يمثل «دوستوفيسكي» في شبابه

عاش «دوستوفيسكي» حياة صعبة في طفولته كأغلب العظماء، فوالده كان جراحًا عسكريًا يدمن الخمور، وعانى منه الصغير لسرعة غضبه وانفعاله، فقد كان يضربه بلا سبب في كل وقت.

إلى جانب معاناته في الحي الذي يسكن به، فقد كان من أسوأ أحياء موسكو بما فيه من مقابر وملاجئ للأيتام والمختلين، بل إن عمل والده كان في مستشفى للفقراء، وشاهد فيها الصغير آلاف المآسي التي جذبته بقدر ما صدمته.

وعندما كبر «دوستوفيسكي» ألحقه والده بمدرسة الهندسة العسكرية وتخرج منها، لكنه لم يعمل بالهندسة طويلاً، بل تركها بسرعة حتى يتفرغ للأدب وترجمة القصص، أما والده فقد قتله الفلاحون لسوء معاملته وقسوته.

احذر الغرور القاتل

المساكين.. أول أعمال «دوستوفيسكي»

جاءت أول أعمال «دوستوفيسكي» سنة 1845 بعنوان «المساكين» وكان لسوء حظه أن وقعت في يد «بلينسكي» أكثر النقاد الروس تشددًا وعدوانية، وبعد قراءة الرواية أمر الناقد الكبير بإحضار «دوستوفيسكي» أمامه فورًا.

حضر الكاتب الشاب يرتجف من التوتر في حضرة «بلينسكي» متوقعًا الشر، إلا أن الناقد الكبير قال له بهدوء:

- «إن ما كتبته رائع يا بني، وأنا أشك أنك تفهمه، فقد كتبت روايتك بغريزة الفنان لا غريزة المفكر، ومن الصعب على شاب مثلك أن يفهم روسيا بهذه الروعة والشفافية، يجب أن تعتز بموهبتك وسوف تكون أعظم أدباء روسيا»

حتى الرجل الذي يغتاله اللصوص يظل حتى آخر لحظة يأمل في النجاة، أما في حالة الإعدام فهم يحرمونك حتى من تلك البقية الباقية من الأمل.. دوستويفسكي

انتشى «دوستوفيسكي» بهذه الكلمات الذي جعلته حديث المجتمع الروسي كله، لكنه سرعان ما انجرف في تيار الغرور وصار ينتقد الجميع من حوله ويرى أنهم مجرد جهلاء، بل إنه هجر ندوات الناقد «بلينسكي» نفسه باعتبارها أقل من مستواه.

كانت نتيجة هذا التغير المفاجئ أن انضم الكاتب الموهوب إلى مجموعة من الشباب الثوري الذي ينتقد الأوضاع السياسية في روسيا تحت اسم «رابطة بيتراشيفسكي» وكانت النهاية المتوقعة هي القبض عليه مع زملائه.

استغل هبة الحياة جيدًا

رسم يمثل مشهد الإعدام لـ «دوستوفيسكي»

ثمانية أشهر كاملة قضاها «دوستوفيسكي» في السجن، إلى أن استيقظ ذات صباح لسماع الحُكم في قضيته، وكان يظن أن الأمر سيقتصر على الحبس فقط حسب المعتاد في هذه القضايا، إلا أن السيارات حملته مع بقية المتهمين إلى ساحة الإعدام.

لم يصدق الأديب الشاب أن تنتهي حياته فجأة بهذه السرعة والمهانة في عمر 28 عامًا فقط، لكنه لم يستغرق في أفكاره كثيرًا لأن الضابط جاء يتلو حُكم الإعدام رميًا بالرصاص في هؤلاء الخونة المتهمين بالسعي للإطاحة بالنظام القومي.

ويحكي الأديب عن هذا الموقف فيما بعد ضمن إحدى رواياته قائلاً:

- «إن أقسى عذاب هو اليقين من أنك بعد ساعة.. بعد عشر دقائق.. بعد نصف دقيقة، ستفارق روحك جسدك ولن تعود إنسانًا حيًا، وقد سمعت هذا بالفعل في حُكم الإعدام، فحتى الرجل الذي يغتاله اللصوص يظل حتى آخر لحظة يأمل في النجاة، أما في حالة الإعدام فهم يحرمونك حتى من تلك البقية الباقية من الأمل».

«دوستوفيسكي» في السجن

غطى الجنود وجوه المتهمين استعدادًا لضربهم بالرصاص، ثم وقفوا جميعًا صفًا واحدًا ورُفعت البنادق نحوهم، وهنا فقط يعلو صياح أحد الضباط آمرًا الجنود بالتوقف، لأن القيصر عفا عن هؤلاء وأمر بتخفيف الحُكم.

لم تكن القصة كلها إلا تمثيلية متكررة ينفذها الجنود مع السجناء الذين لا يعرفون شيئًا، لكن العقوبة خُففت بالفعل إلى 4 سنوات من الأشغال الشاقة في سجون سيبريا الباردة بدلاً من الإعدام، ليشعر «دوستوفيسكي» بأفضل شعور في حياته كما وصف لأخيه فيما بعد:

- حين أنظر إلى الماضي، إلى كل السنوات التي أضعتها عبثًا وخطأً، ينزف قلبي ألمًا، الحياة هبة.. كل دقيقة فيها يمكن أن تكون حياة أبدية من السعادة، فقط لو يعرف الأحياء هذا، الآن ستتغير حياتي، الآن سأبدأ من جديد.

لا تترك فرصة دون استغلالها

لم يكن مسموحًا للسجناء أن يكتبوا في الزنانزين، لكن هذا لم يمنع «دوستوفيسكي»، الذي نجا للتو من الإعدام، من ممارسة عشقه، فقد ظل يحتفظ بأحداث رواياته في ذهنه، مدفوعًا بالأمل الجديد حتى خرج من السجن.

تفجرت إبداعات الأديب الشاب بمجرد عودته لحياته الطبيعية، وتابع كتاباته بسرعة غير طبيعية في الأدب والصحافة أيضًا، حتى كان الناس يسمعونه يتحدث بحوارات أبطاله أثناء سيره في الشارع.

كان يغضب من كل من يتحدث عن فترة سجنه بالسوء أو يظهر شفقة عليه، فقد كان ممتنًا لكل يوم عاشه في تلك التجربة، وكان نتيجتها أن صار «دوستويفسكي» الأديب العظيم الذي ترجمت رواياته إلى أغلب لغات العالم.

حين أنظر إلى الماضي، إلى كل السنوات التي أضعتها عبثًا وخطأً، ينزف قلبي ألمًا، الحياة هبة.. كل دقيقة فيها يمكن أن تكون حياة أبدية من السعادة، فقط لو يعرف الأحياء هذا، الآن ستتغير حياتي، الآن سأبدأ من جديد

لم تقتصر معاناة الأديب على تجربة السجن فقط، فقد كان يعاني من داء الصرع إلى جانب إدمانه للقُمار، لكن كل هذا وضعه «دوستوفيسكي» في رواياته بشكل أدبي أعجب القراء، بل إنه كتب رواية «المقامر» لتسديد ديون مقامرته.

حتى روايته الأشهر «الإخوة كارامازوف» المعروفة أحيانًا باسم «الإخوة الأعداء» استوحاها من حياته مع والده السكير الفظ، وجعل من جريمة القتل الحقيقية خيطًا أساسيًا في روايته التي وصفها الطبيب النفسي الأشهر «فرويد» بأنها أفضل رواية في التاريخ.

المصدر

  • *عبقري.. أحمد خالد توفيق   *اللامكترث.. كيرلس بهجت. *طريقك نحو حياة أفضل.. سلوى محمد زكى   *الوديعة.. ترجمة نظمي لوقا

     

محمود حافظ

محمود حافظ

روائي وصحفي، مهتم بالسينما والأدب ومزجهما بالتاريخ والفلسفة