سور الأزبكية.. حكاية أشهر ممر ثقافي بمصر
باعة يفترشون الأرض، وآخرون وضعوا بضاعتهم التي تحمل بصمات الزمن، من علم وتاريخ، فوق دِكَاكٌ خشبية بشكل منمق، ليبدأ الجميع في الترويج لما معهم من كتب عتيقة، على الطريقة التقليدية بالنداء وأحيانا بالأغاني الارتجالية، ليشكلوا معا مشهدا لن تراه إلا في سور الأزبكية.
على بعد خطوات من سوق العتية الشعبي، ودار الأوبرا القديمة اتخذ باعة الكتب القديمة وأحيانا مجهولة المصدر مقرا دائما لهم، لبيع ما معهم من كتب بأسعار رخيصة قد تصل في بعض الأحيان لجنيه واحد، لكن ما قصة هذا السور الذي يعد المصدر الرئيسي في تثقيف ملايين المصريين خصوصا فئات الشباب، الذي يقصدونه إما حبا فيما يحتويه من كتب، أو لرخص أسعاره عما هو متوافر في المكتبات عموما.
هبة قايتباي
في أواخر القرن الرابع عشر في عهد الدولة المملوكية بمصر، منح السلطان قايتباي، أحد قادة الجند سيف الدين أزبك، قطعة أرض بالقرب من منطقة بطن البقرة، والتي تحولت بفضل ما فعله أزبك فيها من نهضة وتطوير، لحي الأزبكية تيمنا به.
أنشأ الأمير أزبك عددًا من المنشآت الدينية والمدنية، التي تطل على البركة وكان من ضمنها قصره الفخم، ومسجده الذي عرف باسمه، إلا أن فكرة سوق الكتب نشأت في العصر الحديث بعدما أنشأ الخديوي إسماعيل القاهرة الخديوية التي أراد أن تكون قطعة من أوروبا، واختار منطقة الأزبكية لكي تكون باريس القاهرة.
تحويل الأزبكية لباريس
في العام 1867 عاد الخديوي إسماعيل من زيارته لمعرض باريس، وفكر في تحويل حي الأزبكية لتصميم مماثل لما شاهده في عاصمة النور، وأعاد تخطيط الميدان.
قبل تحركات الخديوي إسماعيل، كانت الأزبكية مقرا لسكن أعيان مصر، ورجال الدولة، خصوصا بعد دخول العثمانيين مصر عام1517، حيث شيّد الأمير رضوان كتخدا قصرًا كبيرًا على حافة بركة الأزبكية الشرقية، وأسماه «العتبة الزرقاء» وحاول كل الذين وصلوا للحكم في مصر والمستعمرين استغلال ميدان الأزيكية في حشد المصريين لتأييدهم.
قبيل افتتاح قناة السويس حاول الخديوي إسماعيل تغير شكل المكان وبنى دار الأوبرا لإقامة حفل الافتتاح فيه، واستقبل هناك زعماء أوروبا وكبار رجالها، وبدأت يبعد ذلك حركة سياحية داخلية بالقرب من دار الأوبرا وسور حديقة الأزبكية الحديدي الذي كان ممتدا حتى ميدان إبراهيم باشا، أو ميدان الأوبر حاليا.
ما قبل السوق
قبل نشأة سوق الأزبكية كان يتجول باعة الكتب يتجولون ببضاعتهم الثقافية على رواد المقاهي في وسط القاهرة، ثم يتخذون من حديقة الأزبكية، التي أنشأها الخديوي إسماعيل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مكانا للتجمع والراحة وتبادل الكتب.
مراحل التقنين
كانت تجارة الكتب في الأزبكية غير مقننة، ورغم ذلك حرص التجار على المجازفة رغم تعرضهم لمصادرة بضائعهم من قبل بلدية محافظة القاهرة وأجهزتها الإدارية، لقرب المكان من الجامع الأزهر والمدارس التي أنشأها محمد علي، ومقر إدارة هذه المدارس أو ما عرف بعد ذلك بوزارة المعارف.
لكن السوق الرسمي أنشأ في عام 1933 حينما استأجر أحد بائعي الكتب ويدعى المعلم أحمد الحكيم، كشكًا من البلدية مقابل 240 قرشا يدفعها شهريا، ونشر بضاعته من الكتب على جزء من سور الأزبكية، وهكذا ولدت مكتبات سور الأزبكية.
ورغم مكان السور وموقعه المميز لم يحظى باهتمام كبير من قبل السلطات حتى جاء العام 1949 وكانت تجارة الكتب وقتها مستقرة في هذا المكان وأصبح لها رأس مال وزبائن ثابتين فقرر الباعة التوجه للسلطات للترخيص لهم بالبيع في هذه المنطقة.
تعاطف النحاس باشا
وقتها وبحسب ما ذكرته بعض المراجع التاريخية التي ناقشت التطور الذي نشأ في الأزبكية توجه البائعة وكان عددهم وقتها ٣١ بائعاً لمجلس الوزراء، والتقوا برئيس الوزراء آنذاك مصطفي باشا النحاس، الذي تعاطف معهم وأصدر أمره إلي فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية ليُصدر لهم تراخيص ثابتة لمزاولة المهنة ومنع تعرض بلدية القاهرة لهم ليكون بذلك رسميا أول سور للكتب في القاهرة.
بعد التقنين الذي منحه النحاس باشا لتجار الكتب ازدهرت المنطقة أكثر وتوسعت المكتبات بها، حتى أن بعض المكتبات الكبرى بدأت تشترى لنفسها منافذ للعرض هناك، لكن بعد قيام ثورة 1952 بدأت الأحوال تسوء مرة أخرى، فتوجه الباعة للمرة الثانية عام 1959 للدكتور عبد القادر حاتم، مدير مكتب الرئيس عبد الناصر آنذاك.
هدية عبد الناصر
لحسن الحظ كان الرئيس عبد الناصر قبل الثورة من رواد السور، وكذلك عدد من مجلس قيادة الثورة، لذا كان التفاهم معهم سهلا، وأمر بتطوير المنطقة وتحويلها لمحالات صغيرة من الخشب أو أكشاك ومنحها للبائعين لتنظيم كتبهم وإصدار تصاريح رسمية لهم بمزاولة المهنة بشرط ألا يغيروا نشاطهم وأهداهم الأكشاك.
في ستينات القرن الماضي ساهم السور بشكل فعال في النهضة الثقافية حيث زاد عدد تجار الكتب بالمنطقة حتى وصول 310 تاجر كتب أي تضاعفوا عشر مرات.
سور السيدة
في مطلع الثمانينيات فكرت الحكومة في تخفيف العبء عن شارع الأزهر بعمل كوبري لتخفيف الزحام الذي خلقته الحركة التجارية، ونقلت تجارة الكتب من سور الأزبكية إلى سور السيدة زينب، واستمر لمدة خمس سنوات.
تجار الأزبكية لم يقبلوا بالنقل الإجباري وحاولوا مقاضاة الحكومة في قرارها، وأقاموا دعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية وجاء الحكم لصالح التجار للترخيص لهم بالعمل في السور، وعادوا لكن الأمر تكرر في العام 1993 ولمدة أربع سنوات عندما بدأت الحكومة في إنشاء محطة مترو الأنفاق بميدان الأوبرا، ومن ثم تم نقل التجار لمنطقة الحسين بجوار مستشفى الحسين الجامعي حتى عادوا من جديد عام 1998.
بعد العودة عمل تجار السور على تطوير منتجاتهم وعرضها بطرق مبتكرة حتى سمح لهم بالمشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب والذي بدأ دورته الأولى عام 1969، وخصصت إدارة المعرض خيمة كاملة لبائعي «سور الأزبكية» ليعرضوا بها كافة الكتب التي يحتاجها المثقف والمواطن العادي، بأسعار زهيدة وفي متناول الجميع، إلا أنهم لن يتواجدوا هذه المرة بسبب شروط وضعتها إدارة المعرض ورفضها الباعة، وقرروا عمل معرض للكتب موازي في منطقتهم.