حي عابدين.. من منطقة مهملة إلى مقر للحكم وشاهد على نضال المصريين
لم يشهد ميدان أحداثا سياسية غيرت مجرى التاريخ في مصر بقدر ما شهده حي عابدين، والذي كان عبارة عن منطقة غير آهلة بالسكان، لكنه تحول على يد الخديوي إسماعيل إلى مركز للحكم ودوائره ومقرا للسفارات والقنصليات وكذلك لمنازل الأثرياء. عباس الطرابيلي روى تاريخ الحي في كتابه «أحياء القاهرة المحروسة».
أصل التسمية
اختلف الناس حول أصل حي عابدين، وحول الذي أنشأه.. بل من هو عابدين هذا؟.. هل هو الأمير عابدين جاويش الذي أنشأ زاوية أطلق عليها اسمه عام 1804، خلال الصراع على السلطة بين الولاة العثمانيين ومحمد علي باشا وحملت الزاوية اسمه، وهي الزاوية التي تخربت بعد ذلك؟!.
أم هو عابدين بك أخو حسن باشا طاهر الذي قاد القوات المصرية في موقعة الحماد وتصدى لقوات الغزو الإنجليزية التي نزلت بالإسكندرية بقيادة الجنرال فريزر، وعُرفت بحملة فريزر، وكان هدفها احتلال مصر عام 1801.
ثم شارك عابدين هذا في الحملة التي أرسلها محمد علي بناء على أوامر السلطان العثماني إلى الحجاز لضرب الثورة الوهابية، وظهر اسم عابدين بك عام 1813، عندما كان أحد معاوني القائد العام للحملة الأمير طوسون باشا ابن محمد علي.
ولكن الثابت أن حي عابدين أقدم من ذلك بأكثر من 200 عام، فأول من سكن هذه المنطقة وبنى فيها، هو أمير اللواء السلطاني عابدين بك، بعد حوالي 100 عام من بدء الحكم العثماني لمصر، فقد أقام قصراً بجهة «سويقة صفية» وكان يجاور قصره مسجد قديم يُعرف الآن بجامع الفتح، فعمل عابدين على تجديده والعناية به، وعرف باسمه.
قصر عابدين غيّر معالم المنطقة
ورغم هذا القصر، كان حي عابدين مجرد منطقة متواضعة، إلى أن جاء إسماعيل باشا وأصبح حاكما لمصر عام 1863، فتغيرت معالم هذه المنطقة.
كانت قلعة الجبل مقرا للحكم، لكن إسماعيل رأى أن هذا الوضع لا يتفق مع أحلامه بإنشاء عاصمة عصرية، فبنى قصر عابدين ليجعله مقراً للحكم، وكان يهدف من ذلك أن ينزل ليحيا بين شعبه، فبنى قصره هناك في المنطقة وذلك على غرار القصور الملكية الكبرى في أوروبا.
وقبل أن يبدأ البناء جعل إسماعيل رجاله يتصلون بمن يملكون بيوتاً في المنطقة، وقبل أن ينزع ملكيتها دفع تعويضات مجزية لهم نقداً، وبدأ البناء عام 1863 أي في العام الذي تولى فيه حكم مصر، وكأنه كان لا يريد ألا يضيع يوماً واحداً، واستمر البناء حتى عام 1872، وتكلف القصر 665 ألفاً و570 جنيهاً.
وزارات وسفارات
ولم يكن قصر عابدين مجرد قصر للحكم، بل أصبح دائرة للحكم، إذ أقيمت حوله مقار النظارات، أي الوزارات والدواوين، وبنى رجال السياسة قصورهم وبيوتهم حوله مثل قصر سعد زغلول وحسين رشدي ومحمود الفلكي وأحمد عرابي ومحمود سامي البارودي وغيرهم.
وقامت حول القصر أيضاً مقار الأحزاب الكبرى، وأيضاً مقار السفارات والقنصليات والمفوضيات، بل عندما توفى سعد زغلول أقيم له ضريح ومدفن على بعد أمتار من بيته الذي أصبح بيتاً للأمة، وهناك أيضاً قامت حوله دور الصحف الكبرى مثل روزا اليوسف والبلاغ والجهاد والمصري واللواء.
وعندما لم يتسع المكان لتلبية كل طلبات الجهات المتصلة بأمور الحكم، اتجهت السفارات والقنصليات إلى الضفة الغربية من هذا الحي، إلى حي جديد هو «جاردن سيتي».
وأصبح حي عابدين مقرا لسكن كل من يعمل بالمصالح والوزارات وما يتصل بالحكم، حتى لا يتحملوا أعباء المواصلات، واتجه للإقامة فيه معظم أبناء السودان ومعظم أبناء النوبة.
ثورة 52 حولت القصر إلى منتزه
في بداية ثورة يوليو 1952، أمرت الحكومة بفتح قصر عابدين أمام الشعب وأزالت أسواره، وسمحت للجمهور بدخول حدائق القصر وحمامات السباحة به، واحتلت الهيئة العامة للإصلاح الزراعي جزءً من القصر وشغلتها مكاتب الموظفين، وأصبح جزء آخر مقراً لوزارة الإرشاد القومي.
وعندما تولى الرئيس أنور السادات الحكم عام 1970، أعاد الاهتمام بقصر عابدين وأمر بإعادة ترميمه والمحافظة عليه، وإعادته كمقر للحكم، ثم جاء الترميم الكبير في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، فتم إخلاؤه من الجهات التي شغلت أقساما منه، وأعيد تخطيط الميدان.
كما تم تخصيص مبنى الحرس الملكي سابقا كمقر لمحافظة القاهرة ومكاتب لكبار العاملين فيها، وكذلك الإدارات المهمة بالمحافظة.
ثورات وأحداث
شهد ميدان عابدين أحداثاً كثيرة، أثرت في تاريخ مصر السياسي والعسكري. فقد شهد بدايات الثورة العرابية، عندما زحفت قوات الجيش المصري إلى الميدان يقودها أحمد عرابي ليطالب الخديوي توفيق بالاستجابة لمطالب الجيش والأمة، ودار الحوار المشهور وقتها بين عرابي وتوفيق بحضور ممثل إنجلترا وفرنسا، واستجاب الخديو لمطالب الأمة مؤقتا ثم اندلعت بعد ذلك الثورة العرابية.
كما شهد الميدان إرهاصات ثورة 1919 عندما ملأت الجماهير الميدان وهتفت مخاطبة السلطان فؤاد «سعد.. أو الثورة»، كما شهدت ثورة الشعب بين عامي 1930 و1935، وما عُرف بمعركة الدستور إلى أن خضع القصر الملكي وسقط دستور 1930 وعاد دستور 1923.
وشهد الميدان تحرك القوات الإنجليزية مدعمة بالدبابات يوم 4 فبراير 1942، وقدم السفير البريطاني لورد كيلرن إنذاره الشهير للملك فاروق بتكليف مصطفى النحاس باشا بتشكيل الحكومة.
وشهد الميدان بعد ذلك مظاهرات عارمة خلال فترة الصراع ضد الإنجليز من أجل الاستقلال التام، وهي المظاهرات التي استجاب فيها النحاس باشا لمطالب الأمة وتم إلغاء معاهدة 1936 وكان ذلك يوم 8 أكتوبر 1951.
كما شهد الميدان نفسه زحف قوات الجيش المصري مدعما بالدبابات لمحاصرة قصر عابدين فجر يوم 23 يوليو 1952، لبدء عصر جديد بدأ بتنازل الملك فاروق عن الحكم وما تبعه من إعلان الجمهورية في 18 يونيه 1953 لينزوي – لفترة – عصر قصر عابدين.