باب اللوق.. هكذا تحولت البرك والمستنقعات إلى ملعب للسلاطين ثم مسكن للعائلة المالكة
في منقطة وسط البلد بالقاهرة يوجد ميدان باب اللوق الذي تتفرع منه شوارع تضم بين جنباتها عدداً كبيراً من المباني التاريخية. فما هي حكاية هذه المنطقة، وما أصل التسمية، وكيف وصلت عبر عصور التاريخ المتعاقبة إلى صورتها الراهنة؟.
أصل التمسية
هناك تفسيرات عديدة لتسمية المنطقة بهذا الاسم، منها أن أرض اللوق هذه كانت تغمرها مياه النيل أيام الفيضان ثم تنحسر عنها فتتركها لينة لا تحتاج إلى «حرث» لتصبح أرضاً صالحة للزراعة.
وهذه الأرض اللينة كانت «تُلاق لوقاً» أي تُبذر فيها البذور، ويُضغط عليها بألواح خشبية حتى تغوص البذور داخل الأرض، التي لم تكن بحاجة إلى الري حتى تمام نضج النبات بسبب المياه التي تشبعت بها التربة خلال شهور الغمر طوال الصيف.
لكن رأي آخر يقول سببا لهذه التسمية، فـ«اللوق» أو «اللّق» هي الأرض المرتفعة، ويظهر هذا من رسالة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان إلى وليه بالعراق الحجاج بن يوسف الثقفي عندما أمره ألا تُترك «لقاً» ولا «خقاً» إلا زرعه، و«الخق» هو الغدير إذ جف، أو ما انخفض من الأرض.
قنطرة وملعب
وأرض اللوق كانت تمتد من ميدان عابدين الحالي شرقا إلى المجرى الخالي للنيل غربا، ومن حي المنيرة جنوباً إلى شارع 26 يوليو الحالي، وكان هذا في الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين.
وفي عام 1241 أنشأ السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب قنطرة عند باب الخرق «الخلق»، ليعبر عليها من القلعة إلى الميدان الذي أنشأه في «اللوق» وأنشأ به «منظرة»، وهي مكان جميل كان يجلس عليه الحاكم ليتمتع بـ«المناظر الحاوة».
وقد أنشأ الصالح أيوب ميدان باب اللوق ليلعب به وفرسانه من المماليك. كانت لعبتهم المفضلة هي لعبة «الأكرة» وهي عبارة عن رياضة وفروسية يمارسها الفارس وهو فوق ظهر الخيل، حيث كان يحاول إسقاط الكرة بعد ضربها بالمضرب في «الأكر» أي الحفر.
وبعد انتهاء الدولة الأيوبية ونشوء دولة المماليك، ألغى الظاهر بيبرس البندقداري ميدان اللوق الذي أنشأه الصالح نجم الدين أيوب، ولكنه (أي بيبرس) أنشأ ميداناً آخر بالغرب منه، موقعه الآن ميدان التحرير والجزء الشمالي من حي جاردن سيتي أي منطقة عمر مكرم وقصر الدوبارة والسفارتين الأمريكية والبريطانية.
وظل هذا الميدان قائماً لمزاولة أعمال الفروسية والرماية، حتى جاء السلطان العادل كتبغا بعد ولاية الناصر محمد الأولى، فخاف على نفسه من الخروج من القلعة لمشاهدة أعمال الفروسية في باب اللوق، ولأنه ككل المماليك كان عاشقاً للفروسية فقد أنشأ ميداناً لهذه الفروسية قريباً من القلعة وفي حماها جنوبي بركة الفيل.
ولم تذهب بذلك ذكرى باب اللوق، فعندما عاد الناصر محمد بن قلاوون إلى السلطة مرة ثالثة، ألغى الميدان الذي أنشأه بيبرس وأنشأ مكانه بستاناً تُزرع فيه الفواكه والزهور التي جلب بذورها من الشام، وكان هذا البستان يمتد غرباً ليصل إلى شاطئ النيل، ولما زادت مكانة الأمير قوصون – صاحب الجامع الشهير في شارع القلعة – أهداه السلطان الناصر هذا البستان الذي أضاف إليه زريبة تطل على النيل لتربية الخيول (رمز الفروسية عند المماليك).
برك ومستنقعات
واستمرت هذه المنطقة مشهورة ببستانها – طوال حكم الناصر محمد وباقي سلاطين المماليك البحرية ثم أخذت تتدهور ويلحق بها الخراب حتى أصبحت بركاً ومستنقعات وإن بقيت فيها بعض المزارع.
واستمر التدهور فيها إلى القرن الماضي عندما نُقلت مدابغ القاهرة إليها من موقعها الأول في جهة حوش الشرقاوي وسوق العصر جنوب ميدان باب الخلق أيام محمد على باشا. وسبب نقلها من باب الخلق هو تضرر الناس من روائح القاذورات المتخلفة عن عملية الدباغة بعد الذبح، فتم نقل المدابغ إلى باب اللوق.
لكن عندما أنشأ الخديو إسماعيل نظارة الأشغال العمومية عام 1864 لتصبح أداة لتنسيق سياسته الحضرية واختار على باشا مبارك لهذه المهمة الحضارية، تقرر نقل المدابغ من باب اللوق في العام التالي إلى جوار الفسطاط، أي قرب موقعها الحالي.
وتم تخطيط المنطقة كلها على هيئة شوارع مستقيمة ومتقاطعة هي المنطقة العصرية الحالية بباب اللوق والشوارع الخارجة والداخلة، وظل اسم باب اللوق حتى بعد أن ذهب الباب.
ومن اشهر الشوارع المتفرعة من الميدان شارع البستان الذي أنشأه السلطان الناصر محمد المملوكي، وهو الشارع كان يقع فيه قصر البستان والذي سكن فيه الأمير فؤاد قبل أن يصبح سلطاناً على مصر ثم ملكاً عليها، وهو القصر الذي أصبح مقراً لجامعة الدول العربية قبل أن تنتقل إلى مبناها الحالي المواجه للمقر التاريخي لوزارة الخارجية، ثم هُدم بعد أن أصبح مقراً للجمعيات الأهلية وتحول إلى جراج متعدد الأدوار على ناصية الشارع.