القدرية.. الفرقة التي دافعت عن العدل الإلهي وحرية الإنسان ثم انحرف مسارها
لم تنشأ فرقة القدرية من فراغ، وإنما ساهمت مجموعة من العوامل التي سادت في العصر الأموي في ذيوع أفكارها، ربما كان أبرزها تلك الأمواج الفكرية المتلاطمة التي ترتب عليها نشأة عدد من الفرق الفلسفية والكلامية وأبرزها «الجبرية».
و«القدرية» هم أصحاب القول بالاختيار، أي القائلين بحرية الإرادة، فالإنسان في نظرهم مختار في أفعاله حر في إرادته. في كتابه «الحجاج والمناظرة» تناول الدكتور مصطفى سليم أفكار «القدرية» وكيفية نشأتها.
هل القدرية رد فعل لفرقة الجبرية؟
نشأت فرقة القدرية في ظل التيارات الجدلية التى اتَّسم بها العصر الأموي، وإن كانت لها إرهاصات زمن الخلافة الراشدة، فقد خاض المسلمون الأوائل هذه المسألة، ولكنها أثيرت فى طي تساؤلات عابرة طُرحت بشكل عفوي.
أما فى العصر الأموى فقد نهضت بها طائفة معينة عبَّرت ودافعت عنها، و«ظهرت كرد فعل وحركة تصحيح لآراء الجبرية الذين نفوا الإرادة الإنسانية عن أفعال المرء كلية، فالإنسان في معتقدهم كالزرع الذى ينبت وكالنبات الذى يحيا، وبهذا فقد نفت الجبرية صفة العدل الإلهى عن الذات العليا، إذ كيف يخلق الله الإنسان ويجبره على الأفعال ثم يفرض عليه ثواباً وعقاباً، وهو المقر للفعل فى الأزل، فهو بهذا يحاسبه على ما لم يقترفه، وهذا منافٍ لصفة العدل الإلهى التى اختص الله بها نفسه فى قوله «ولا يظلم ربُّك أحداً»، وعلى هذا فقد قيَّدت حرية الإنسان وعطلتها، وبناء عليه ظهرت القدرية لتصحح هذا المفهوم الذى ساد وأثبتوا أن الإنسان مسئولٌ مسئولية كاملة عن أعماله».
بين الاعتدال والتطرف
وقد كان الحسن البصرى إماماً لمعتدلى هذه الفرقة، فقد أراد أن ينفى عن الإنسان صفة التواكل التى يركن إليها فى ظلال هذه المفاهيم، وكأنه فطن إلى مراد خلفاء بنى أمية فى اتخاذ هذه الدعوى ذريعة ليستمدوا منها قوة عروشهم، ويظهر هذا جلياً فيما أورده ابن قتيبة، إذ يروى أن عطاء بن يسَّار ومعبد الجُهنى كانا يأتيانه فيقولان: إن هؤلاء الملوك، بنى أمية، على قدر الله، فيقول: كذب أعداء الله.
وإذا كان البصري اعتدل في مذهبه فإن كثيراً من القدرية أخرجوا المذهب عن طريقه الصحيح، ومنهم معبد الجُهنى، داعي القدرية في العراق، وغيلان الدمشقي، داعيها في دمشق، وقد روى السكونى أن غيلان وقف يوماً على ربيعة بن عبد الرحمن فقال له: «أترى الله يريد أن يُعصى؟»، فقال له ربيعة: «أترى الله يُعصى قهراً؟!».
وروى ابن يحيى المرتضى في كتابه «المنية والأمل في شرح الملل والنحل» أن «عمر بن عبد العزيز بلغه أن غيلان وفلاناً نطقا فى القدر فأرسل إليهما وقال: ما الأمر الذى تنطقان به؟ فقالا: هو ما قال الله يا أمير المؤمنين، قال: وما قال الله؟، قالا: قال: «هل أتى على الإنسان حِينٌ منَ الدَّهر لم يَكُن شيئاً مذكوراً» (الإنسان آية 1)، ثم قال: «إنَّا هديناهُ السَّبيلَ إمَّا شاكِراً وإمَّا كَفُوراً» (الإنسان 3)، ثم سكتا.
فقال عمر: اقرآ، فقرآ حتى بلغا «إنَّ هذه تذكرةٌ فمن شاء اتَّخذَ إلى رَبِّهِ سبيلاً، وما تشاءون إلا أن يشاء الله...» إلى آخر السورة. قال عمر: كيف تريان؟ أتأخذان الفروع وتدعان الأصول! قال ابن مهاجر، ثم بلغ عمر أنهما أسرفا فى القول، فأرسل إليهما، وهو مغضب، فقام عمر، وكنت خلفه قائماً، حتى دخلا عليه، وأنا مستقبلهما، فقال لهما: ألم يكن فى سابق علم الله حين أمر إبليس بالسجود ألا يسجد؟ قال: فأومأت إليهما برأسى أن قولا: نعم وإلا فهو الذبح، فقالا: نعم. فقال: أولم يكن فى سابق علم الله حين نهى آدم وحواء عن الشجرة أن يأكلا منها فألهمهما أن يأكلا منها؟. فأومأت إليهما برأسى، فقالا: نعم، فأمر بإخراجهما، وأمر بالكتاب إلى سائر الأعمال بخلاف ما يقولان، فأمسكا عن الكلام».
وفاة عمر بن عبد العزيز وعودة غيلان
ولما وافتِ المنيةُ عمر بن عبد العزيز عاد غيلان الدمشقى بآرائه القدرية مرة أخرى إلى أن تولى هشام بن عبد الملك بن مروان أمر الخلافة 105 هـ، وجمع بينه وبين الإمام الأوزاعى فى مناظرة.
ويروى ابن عبد ربه الأندلسي في «العقد الفريد» أن الفقيه عبد الرحمن الأوزاعى قال لغيلان: «أسألك عن خمس أو عن ثلاث؟ فقال غيلان: بل عن ثلاث؛ قال الأوزاعى: هل علمت أن الله أعان على ما حرَّم؟ قال غيلان: ما علمت، وعَظُمت عنده، قال: فهل علمت أن الله قضى على ما نهى؟ قال غيلان: هذه أعظم! ما لى بهذا من علم؛ قال: فهل علمت أن الله حال دون ما أمر؟ قال غيلان: حال دون ما أمر! ما علمت؛ قال الأوزاعى: هذا مرتاب من أهل الزيغ»، وأمر هشام بن عبد الملك بضرب عنقه، وطالب الأوزاعى بتفسير كلماته الثلاث.
ولم يكن مَعبَد الجُهَنى أقل تأثيراً كداعٍ من دُعاة القدر، فإذا كان غيلان قد نشر هذه الآراء فى دِمَشق فقد تبنَّاها مَعبَد فى العراق وظل يدعو لها إلى أن قتله الحجاج فيمن قتلهم عقب فتنة عبد الرحمن بن الأشعث والتي خرج فيها عن الدولة الأموية وكان معبد مناصراً لها.