قصة حياة المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد
ما لا تعرفه عن جميلة بوحيرد أيقونة الثورة الجزائرية
يزخر التاريخ العربي بنماذج كثيرة لنساء وهبن أنفسهن للدفاع عن قضايا أوطانهن، ودفعن في سبيل ذلك الغالي والنفيس. إحدى هؤلاء المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، التي دافعت عن حق بلادها في الاستقلال عن فرنسا، ما عرضها لأنواع شتى من التعذيب الجسدي والنفسي حتى أصبحت أيقونة للثورة الجزائرية.
في دراستها «جميلة بوحيرد الرمز لثوري في الشعر العربي المعاصر»، ألقت الباحثة الجزائرية فاطيمة بوقاسة، الضوء على بعض المنعطفات في حياة المناضلة.
نضال جميلة بوحيرد
جميلة من مواليد عام 1935، بالعاصمة، فتحت عينيها في بيت يعشق أهله الوطن، فاكتسبت النضال بالوراثة، فأمها من عائلة وطنية، وإخوتها (إخوة أمها) وأبناء عمومتها كانوا ينتمون لمختلف الأحزاب الوطنية، وأحدهم سُجن وعُذّب وكان عمره ستة عشر سنة فقط.
باعترافها، كان انضمامها إلى جبهة التحرير الوطني صعباً، وتم عن طريث إحدى الصديقات المناضلات في أحد الأحزاب، ويعد تاريخ 1956 نقطة التحول الكبرى في مسار حياتها، حين قررت ترك معهد الخياطة الذي كانت إحدى طالباته، لتلتحق بالثورة، ولم يتجاوز عمرها آنذاك العشرين عاماً.
كلفها بادئ الأمر عمها مصطفى بوحيرد بخدمة رعاية وإطعام المناضلين يوسف سعدي، وعلى لابوانت، وعليلو، لتُعتمد فيما بعد فدائية متمرسة في رمي القنابل التي كان منزلها بالقصبة مصنعاً لهاز
وكانت أهم عملية لها تلك التي استهدفت ملهى «ميلك بار يوم» في يناير عام 1957، وهي العملية التي جعلتها من المطلوبين من قبل السلطات الاستعمارية، ليتم القبض عليها في يوم 9 أبريل 1957، بعد أن أصابتها رصاصة أحد المظليين الفرنسيين في رجلها إثر عملية مطاردة رهيبة في شوارع القصبة، وعُثر بحوزتها على وثائق مهمة تخص جبهة التحرير الوطني، ووثائق أخرى موجهة إلى المجاهد المعروف عبان رمضان ومبلغ مالي كبير قدره 800 ألف فرنك فرنسي.
تعذيب جسدي ونفسي
ومنذ هذا التاريخ بدأت مأساة جميلة، فتعرضت لأبشع أنواع التعذيب، وأشدها إيلاماً، وأكثرها استفزازاً، تقول: «لقد تعرضت في 29 أبريل 1957 إلى استنطاق وتعذيب متواصلين، وذلك في المشفى العسكري، لقد قاسيت لمدة 3 أيام عذابات الضرب العنيف والكهرباء إلى أن أُغمى علي، فصرت أهذي".
وهذا ليس كل شيء، بل تجرأ أحد معذبيها على ملامستها ملامسات داعرة على مرأى من الجميع مُهدداً إياها باستخدام سنغالي لاغتصابها، تقول: «ولما استنكرت ضربوني على جرح يدي، وأبقوني هكذا أتعذب كل يوم بل كل ساعة، ولم يجلبوا لي طبيباً ليكشف علىّ إلا بعد أشهرـ فأعطى تقريراً خاطئاً عن إصابتي رغم وجودها، ووجود آثارها».
وكان سجن أخويها وتعذيبهما وخصوصاً أصغرهما «إلياس» الذي لم يكن يتجاوز عمره الرابعة عشر إحدى وسائل الضعط النفسية لجرها إلى الاعتراف بمكان ياسف سعدي، ولابوانت.
حكم الإعدام ضد جميلة بوحيرد
ولما لم تنل منها فرنسا شيئاً، صدر حكم بإعدامها مع زميلتها جميلة بو عزة، وكان هذا يوم 17 يوليو 1957، ولم يُعلن الحكم إلا في يوم 15 من الشهر نفسه، بسبب عطلة 14 يوليو الذي يوافق ذكرى الثورة الفرنسية، والتي ويا لعجائب الصدف حملت شعارات رنانة كثيرة منها العدالة والإخاء والمساواة.
تقول جميلة واصفة ذلك اليوم: «كان أجمل يوم في حياتي، لأنني كنت مقتنعة بأنني سأموت من أجل أروع قصة في الدنيا، وما زلت أذكر أننا لما عدنا من قاعة المحكمة إلى السجن، وصرخ الإخوة المساجين يسألوننا عن مضمون الحكم.. أجبنا بالنشيد الذي ينشده المحكومون بالإعدام ومطلعه.. الله أكبر، تضحيتنا للوطن.. كنت أنا وجميلة بو عزة ننشده، وكانت لحظة مؤثرة فآلاف الأصوات رددت معنا النشيد محاولة تشجيعنا».
وكان من الممكن أن يمر قرار إعدام جميلة، كما تمر حوادث الإعدام الأخرى- وما أكثرها – في هدوء، لو لم يظهر على ساحة القضية أحد أشهر محامي العالم جاك فرحيس، ليتولى بتصميم الدفاع عن جميلة وهو المحامي الذي قابله القاضي بالرفض، ومنع اعتماده محامياً عنها، بل وخططت السلطات الفرنسية لإيقافه، ومحاولة اغتياله، خصوصاً بعد تمرد جميلة بو حيرد على المحكمة، ورفضها الإجابة عن الأسئلة في غيابه
ويخطئ كثيرون عندما يعتبرون جاك فرحيس فرنسياً، والحقيقة أنه من جزيرة رينون المحتلة هي الأخرى من قبل فرنسا، ووهب حياته للدفاع عن حقوق الأفراد والشعوب المستعمرة، بدءًا بالجزائر ووصولاً إلى فلسطين، وألف عن جميلة كتاباً بعنوان «جميلة بوحيرد» بالتعاون مع الكاتب الفرنسي جورج آرنو.
تدويل قضية المناضلة الجزائرية
كل هذا كان له أثر في تدويل قضية جميلة التي أثار الحكم عليها وعلى أربع نساء أخريات بالإعدام الرأي العام العالمي، ما دفع بفرنسا إلى إلغائه، تهدئة للأجواء، وتحسيناً لصورتها المشوهة أمام العالم، لتبقى جميلة سجينة حتى الاستقلال، حيث نُقلت ورفيقاتها إلى باريس، وهناك أُفرج عنهن.
أما عن زواجها الأول من محاميها فرحيس، وهو الأمر الذي لم يفهمه ولم يغفره لها البعض على اعتبار أنه مسيحياً، فردت عليه قائلة: «لقد وصلتني مئات الرسائل من جميع بلدان العالم الإسلامي، حتى من باكستان.. لقد كانوا يعتبرونني ملكاً عاماً، وليس ملكاً لنفسي، وأنا أفهمهم، ولكن الحقيقة أن فرحيس اعتنق الإسلام قبل أن أتزوجه، وما كنت لأتزوجه أبداً لو لم يسلم».
جميلة بوحيرد بعد الاستقلال
بعد استقلال الجزائر، اُستقبلت جميلة في أغلب الدول العربية التي عشقتها شعوبها دون أن تراها، فمن الأدرن إلى العراق، إلى مصر حيث التقت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إلى الكويت، إلى سوريا، حيث احتفت الجماهير بهذه المناضلة.
كما اُعتبرت جميلة مواطنة شرف في سوريا والعراق، وحملت رتبة شرفية في الجيش السوري.
وعُرض عليها أن تكون نائبة، لكنها رفضت، وفضلت ترك مقعدها لمن هو أكفأ منها – على حد تعبيرها – واكتفت بتوجيه الانتقادات اللاذاعة أحياناً إلى الرئيسين بن لة وهواري بو مدين.
وفي عام 1982 شاركت في مظاهرات احتجاجاً على قانون الأحوال الشخصية الذي ظلم المرأة لجزائرية حسبما رأت وقتها.
وكانت «جميلة» موضوع كتابات كثيرة شعراً ونثراً، كما أنتجت لها السينما المصرية فيلماً يحكي بطولتها، وقامت بدروها الفنانة الراحلة ماجدة ولكنه لم يعجبها – أي جميلة – وقالت عنه «فظيعاً.. لم نكن هكذا أبداً».