الذهب والفضة تحت رحمة البيانات الأمريكية
واصلت أسعار الذهب والفضة تراجعاتها بوتيرة معتدلة خلال الأسبوعين الماضيين رغم موجة الارتفاعات القوية التي بدأتها في نهاية يونيو الماضي وبلغت ذروتها في الثلث الأخير من تعاملات يوليو.
نحاول في السطور القادمة تقييم الصورة العامة لاتجاهات الذهب والفضة خلال الشهور القليلة القادمة في ظل الضبابية المحيطة بتوقعات الطلب المادي والاستثماري، ناهيك عن العوامل المرتبطة بمؤشرات التضخم واتجاهات السياسة النقدية.
يمكن القول أن الذهب والفضة يوشكان على التخلي عن كافة المكاسب التي بدأت قبل شهر ونصف بدعم من تراجع أداء الدولار الأمريكي. وجاء هذا الارتفاع بعد أن راجت تكهنات بأن الاحتياطي الفيدرالي سينهي في اجتماع يوليو دورة تشديد السياسة النقدية التي بدأها قبل نحو عامين. بطبيعة الحال تدعم هذه التكهنات الطلب الاستثماري على المعادن الثمينة، أو بالأحرى تخفف الضغوط عليها، لأنها تقلل من تكلفة الفرصة البديلة لاقتناء هذه النوعية من الأصول التي لا تُغل عائدًا لحامليها.
تغيرت الصورة إلى حد كبير خلال الأسابيع الماضية، وإن كان الاتجاه العام عند النظر إلى اسعار الذهب مباشر لا يزال أقرب إلى العرضي منه إلى الانعكاس الهبوطي. في المدى القصير، يبدو أن هناك عقبات في طريق استئناف الذهب والفضة للمسار الصعودي بعد أن استجمع الدولار الأمريكي عافيته وبدأت عوائد سندات الخزانة في الارتفاع مرة أخرى. يُعزى ذلك بصفة رئيسية إلى القراءة القوية لنمو الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة وبعض البيانات التي أظهرت أن الاقتصاد الأمريكي لا يزال يبدي مرونة في مواجهة أسعار الفائدة المرتفعة.
كان من المثير للاهتمام ردة فعل الذهب والفضة تجاه تقرير التوظيف بالقطاع غير الزراعي الذي صدر يوم الجمعة الماضية. أظهر التقرير الرسمي الذي يُصدره مكتب إحصاءات العمل أن الاقتصاد الأكبر عالميًا أضاف 187 ألف وظيفة في يوليو، وهو ما أتى أقل من متوسط توقعات السوق التي رجحت هذا الرقم عند 200 ألف. وعلاوة على ذلك، نُقحت أرقام تقرير يونيو لتُظهر إضافة 185 ألف وظيفة مقارنةً مع القراءة الأولية 209 ألف.
كانت ردة الفعل الأولية للسوق سلبية للغاية حيث تراجع الدولار الأمريكي بشكل قوي أمام سلة من العملات الرئيسية، فيما ارتفع الذهب بأكثر من 20$. ارتكزت هذه التطورات على افتراض أن سلبية بيانات الوظائف ستدفع الاحتياطي الفيدرالي للبدء قريبًا في تيسير السياسة النقدية، أو الأقل إضعاف احتمالات إجراء رفع إضافي في سبتمبر القادم.
برغم ذلك، لم تدُم ارتفاعات الذهب والفضة طويلاً حيث استأنفا مسارهما الهبوطي بعد أن التقط الدولار الأمريكي أنفاسه ونجح في استعادة كافة خسائر الجمعة. التفسير الأول لما حدث هو أن أرقام الوظائف، وبرغم أنها فقدت زخمها القوي الذي حافظت عليه طوال العام الماضي، إلا أنها تأتي في سياق اقتراب الاقتصاد الأمريكي من حالة التشغيل الكامل. كان ذلك واضحًا في انخفاض معدل البطالة إلى 3.5% مقارنةً بقراءة يونيو التي سجلت 3.6%. وتعززت هذه الرهانات بعد أن قالت عضو الاحتياطي الفيدرالي ميشيل بومان أنها تؤيد رفع أسعار الفائدة مرة أخرى لاحتواء ضغوط الأسعار.
يقودنا التحليل السابق إلى أن بيانات التضخم ستكون هي محط الاهتمام الرئيسي لصانعي السياسة النقدية، وبالتبعية المستثمرين والأسواق المالية. من المهم أيضًا لفت الانتباه إلى ضرورة متابعة قراءة مؤشر التضخم بالقيمة الأساسية، والذي يستبعد البنود المتقلبة مثل أسعار الغذاء والطاقة، باعتباره الأكثر قدرة على التنبؤ بالاتجاهات طويلة المدى.
إذا أردنا تلخيص ما سبق، يمكن القول أن الضعف النسبي لمؤشرات الاقتصاد الكلي في الولايات المتحدة ليست مقلقة حتى الآن للبنك المركزي. على سبيل المثال، فإن ضعف أرقام الوظائف يقابله انخفاض معدل البطالة، وبالتالي يستطيع الاقتصاد الأمريكي التعامل مع ضعف وتيرة خلق الوظائف لعدة أشهر قبل أن ينعكس أثرها السلبي على الطلب الاستهلاكي وعموم الاقتصاد.
وبرغم ميلنا إلى سيناريو ’جمود الأوضاع‘ حتى بداية العام القادم على الأقل، لا ننسى هنا السيناريو الصعودي للذهب والفضة والذي يرتبط بتراجع قوي في معدلات التضخم بشكل يقود إلى إعادة صياغة خريطة الطريق للسياسة النقدية.
التحليل الفني
إذا أردنا تصور السيناريوهات الاقتصادية التي أشرنا إليها آنفًا على الرسم البياني سنلاحظ أن استئناف المسار الصعودي للذهب يتطلب كسرًا حاسمًا أعلى المستوى النفسي 2,000$ للأوقية والذي مثل سقف قناة الحركة منذ منتصف مايو الماضي. الكسر أعلى هذا المستوى يفتح الطريق صوب القمة السنوية عند 2079. تمثل تلك المنطقة مستوى المقاومة الرئيسي، حيث فشل السعر في تجاوزها في 2020 و2022 و2023، وهو ما يعطي الكسر أعلاها أهمية كبيرة عند رسم السيناريوهات الصعودية للمعدن الأصفر في المدى الطويل.
على النقيض من ذلك، فإن السيناريو الهبوطي سيطرح نفسه على الطاولة بقوة إذا نجح البائعون في الكسر أسفل قاع يونيو المحوري عند 1893. يمثل هذا المستوى قاعدة نطاق الحركة منذ مارس الماضي وهو ما يفتح الطريق مبدئيًا صوب القيعان السنوية على حدود المستوى 1800.
بالنسبة للفضة، يجد السعر دعمًا على حدود المستوى 23.20، حيث يتلاقى خط الترند الصاعد مع المتوسط المتحرك لفترة 200 يوم. احتوى هذا الدعم المحاولة الهبوطية الأخيرة حيث ارتد السعر من تلك المستويات، إلا أنه غير قادر حتى الآن على تجاوز مقاومة خط المتوسط المتحرك لفترة 50 يوم، والذي سيفتح الكسر أعلاه الطريق صوب القمم التالية عند 24.60 و25.35.