رمضانيات.. غزوة بدر وفلسفة النصر
ما أحوجنا ونحن في ذكرى غزوة بدر، أن نعود إلى سيرة الرسول الكريم، فنأخذ منها العقائد السليمة التي تقوم الفكر، والعبادات الصحية التى تزكى النفس، والأخلاق الفاضلة التى تطهر القلب، والآداب الحسنة التى تُـجمل الحياة، والتشريعات التى تُقيم العدل.
ومن سيرته صلى الله عليه وسلم غزوة بدر التى تـُعلمنا أن النصر لا يأتي عفوًا، ولا ينزل اعتباطًا، وقد جعل الله تعالى له سُننًا سجلها في كتابه الكريم، وأوضحها الرسول الكريم ليعرفها عباده المؤمنون ويتعاملون معها على بصيرة.
حين يسأل أحدنا لماذا لا ينصرالله عباده المؤمنين اليوم فى شتى بقاع الأرض؟ لماذا ينتصر أهل الكفر فى كل ميدان وفى كل مجال؟ ولما لا تنطبق فينا الآية (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ) كما حدث فى غزوة بدر.
تجيب غزوة بدر وتـُـبين أن للنصر أسباب وفلسفة لابد أن تتحق، وفلسفة النصر فى ديننا هى:
- تحقيق الإيمان بالله تعالى
لأن نصر الله لا يتنزل إلا على من آمنوا بالله حق الإيمان ، فعلموا أن النصر لا يأتى إلا من الله (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) ، لا يتنزل النصر إلا على المؤمنين المتذللين لله المنكسرين له (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ، لا ينتزل النصر إلا على المؤمنين الذين يتضرعون ويدعون الله بصدق ويستغيثون به ، يقول ابن مسعود : ما سمعنا مناديا ينشد ضالة أشد مناشدة من محمد لربه يوم بدر "اللهم إنى أنشدك ما وعدتنى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) فأمدهم بالملائكة .
- التآلف والترابط بين المسلمين
فنصر الله لا يتنزل على المتنازعين على السلطة، الذين يقاتلون لمنفعة شخصية أو حزبية أو إقليمة أو دنيوية تافهة لا يريدون بذالك وجه الله والدار الآخرة (حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ۚ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، إنما يتنزل النصر على المؤمنين المتآلفين المتحابين المترابطين (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .
- الأسباب المادية وإعداد العدة
يخطئ من يظن أن هذا الدين ينتصر بمعجزة إلهية ، أو ينتصر بتحقيق الأيمان والأخوة وفقط ، ولو كان ذالك لنصر الله المؤمنين يوم أحد ، أوفى البداية يوم حنين، أو كان فتح القسطنطينية على أيد الصحابة والتابعين، وإنما ينتصر بجهد بشرى، ينتصر بإبداع وإبتكار عسكرى، قد ابتكر الرسول صلى الله عليه وسلم في قتاله مع المشركين يوم بدر أسلوبًا جديدًا في منازلة الأعداء يتمثل في نظام الصفوف. وهذا الأسلوب أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} وقد كانت العرب تقاتل بأسلوب الكرّ والفرّ، وهو الأسلوب المعهود بينهم، فعمد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ابتكار أسلوب الصفوف.
ومن أشهر الخطط العسكرية المُبدعة في التاريخ العسكري للمسلمين خُطّة محمد الفاتح في فتح القسطنطينية، فقد وصل بسفنه المُحمّلة بالمدافع الضخمة إلى مضيق الدردنيل، فوجد أن البيزنطيين قد سدُّوا المضيق بمجموعة من السلاسل الضخمة الممتدة بين الشاطئين؛ بحيث تمنع السفن من العبور، فقرر القائد المِغْوَار أن يقوم بأكبر عملية نقل أسطول بَحْرىّ في التاريخ، وقام الجيش كله بسحب السفن على أعمدة خشبية ووضعها على قمة الجبل، ثمّ التفَّ من خلف السلاسل، وأنزل الأسطول في البحر مرَّة أخرى، ففوجئ البيزنطيون بحركة الالتفاف التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ كله، وكانت نتيجة المفاجأة وعنصر الدَّهشةِ أن سقطت المدينةُ في قبضته بأقل الخسائر ، وأيضا كما ينتصربإبتكار عسكرى ، ينتصر بإمتياز إعلامى يعرض قضيته فى أسلوب رائع ، وينتصر بمفكرين مثقفين يجيدون صناعة الرأى العام
بقلم الشيخ - أحمد غانم