طه حسين سيتجاوزك باستمرار يا «سوزان».. قصة حب ملأت القلب لا العين
«بدونك أشعر أني أعمى حقاً، أما وأنا معك فأنني أتوصل إلى الشعور بكل شىء، وإلى أن أمتزج بكل الأشياء التى تحيط بى».
كانت هذه إحدى رسائل عميد الأدب العربي، طه حسين، إلى زوجته الفرنسية سوزان بريسو، والتي استعادت قرائتها في إحدى الليالي التي تلت وفاته، لترد برسالة لم ولن تصله أبدا: «ذراعى لن تمسك بذراعك أبدا، ويداى تبدوان لى بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق فى اليأس. أريد عبر عينى المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شىء، أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة».
حب مستحيل
مشاعر راقية وحقيقية شكلت قصة حب جمعت بين «حسين» و«بريسو»، سميت بـ«الحب المستحيل»؛ تلك القصة التي روتها ووثقتها «بريسو» في كتاب بعنوان «معك» الذي صدر بعد عامين من وفاة زوجها، معبرة عن شعورها الحقيقي تجاه حبيبها وصديقها وزوجها الأوحد، قائلة: أكتب لأتقدم نحوك، واستمر في كتابة كل ما يعبر قلبي.
كان حبهما تجاه بعضهما بالفعل مستحيلا، في حالة النظر إلى كثير من الاعتبارات والظروف المحيطة بالثنائي؛ فهي فتاة فرنسية جميلة، وهو فلاح مصري كفيف. ذلك بجانب رفض أهل «بريسو» زواجها من غريب وكفيف ومسلم، ولكنها تحدّت الجميع من أجله، وتحدى هو الكون للفوز بحبه وبها.
البدايات
«صديقتي كانت معلمتي. بفضلها تعلمت اللغة الفرنسية وتعمقت بالأدب الفرنسي. وبفضلها أيضا تعلمت اللاتينية وحصلت إجازتي في الآداب، وبفضلها أخيرا تعلمت اليونانية وتمكنت من قراءة أفلاطون بلغته».
علاقة صداقة قوية جمعت بين الثنائي منذ بدائية تعارفهما سويا، فجاء لقاؤهما الأول في مدينة مونبيليه الفرنسية عام 1915، لستقبل أذنا «حسين» صوتها استقبال الحبيب إلى محبوبه، وذلك حين بدأت تقرأ له الكتب والأشعار الفرنسية، وبعدها تكررت زيارتها إليه بهدف قراءة بعض من الأدب الفرنسي له.
ولأنه كان يخشى رفضها لحبه، لم يصارحها بحقيقة مشاعره تجاهها إلا عقب عودته إلى مصر من خلال خطاب يبوح فيه بتعلق قلبه بها، ويقول لها بداخله: «اغفري لي.. لا بد من أن أقول لك ذلك.. إنى أحبك».
من ناحيتها، لم تكن مشاعر «بريسو» تجاه «حسين» قد تعدت مرحلة الصداقة لتصل إلى الحب العظيم الذي كان يحمله في قلبه وقتها، فكان ردها: «ولكنى لا أحبك»، ليجيب هو بحزن ومرارة ألم الحب، قائلا: «إننى أعرف ذلك، جيدا وأعرف جيداً كذلك أنه مستحيل».
«لا تخافي»
وسط تردد الفتاة الجميلة ورفض أسرتها مباركة تلك العلاقة، جاءت نصيحة عمها إليها لتكون بمثابة مفتاح الحياة، وذلك حين قال لها: «لا تخافى.. بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إنه سيتجاوزك باستمرار»، ليكون الشرارة التي ملأت قلبها بالاطمئنان وجعلت زواج الثنائي يتم في يوم التاسع من أغسطس عام 1917، ويستمر لمدة 56 عاما، تعلم خلالهما عميد الأدب العربي لغات الفرنسية واللاتينينة واليونانية عن طريق زوجته، وأنجب منها أولاده أمينة ومؤنس.
سعادة زوجية
حرص «حسين» كل الحرص على منح زوجته قدرا هائلا من السعادة الزوجية، وهو ما انعكس عليها بمزيد من الشعور بالحب تجاهه. كان يشاركها لحظات خوفه وسعادته وحزنه، وكان يجد فيها مصدر الراحة والاطمئنان والحب.
في إحدى احتفلاتهما بمناسبة زواجهما، لم يكن عميد الأدب العربي حاضرا، فكتب إليها يقول: «بى حاجة للقول أنى أحبك، إنى لأقولها لك مع ذلك، وإنه لعهد لك منى جديد. ولما كنا متحابين، فإننا سوف نسير من جديد، أقوياء بهذا الحب نحو المستقبل الذى ربما سيشبه الماضى، أو لعله سيكون أفضل منه أو ربما سيكون أسوأ منه؛ ولكن ما همنا؟.. سوزان، لنتابع المسير.. أعطنى يدك».
وفي مرة أخرى وبينما كان في مصر في الوقت الذي كانت فيه زوجته مع أولاده في فرنسا، كتب إليها يقول: «سوزان.. أود لو أصف لك ضيقى عندما تركت السفينة، عندما رجعت إلى القاهرة،..فقد دخلت غرفتنا وقبلت الزهرة وغطيت بالقبلات الصورة التى لا أراها، ومع ذلك فقد فعل أصدقائى كل ما بوسعهم لتسليتى. عندما عدت، واجهت الفراغ. السرير الذى لا يزال على حاله، وسرير الصغيرة المغطى، والمهد الغائب.. يستحيل على القيام بشئ آخر غير التفكير بك. ولا أستطيع أن أمنع نفسى من البكاء كلما دخلت الغرفة؛ فأنا أجدك فى كل مكان دون أن أعثر عليكى. لنقل إننى فى القاهرة فى سبيل حماقة ما".
بينما كتبت هي معبرة عن كل مرة كان يصدر لحبيبها كتابا ويأتي به إليها مترددا، تقول: «أكنت تعرف أنت ما كنت أعانيه عندما كنت تحمل لى واحدا من كتبك صدر أخيراً؟ آه! لم يكن ما أعانيه زهوا ولا ـ أسألك العفوـ كان مسرة مشروعة، لا! إذ إن ما كان يقلقنى ـ ولا يزال يقلقنى أكثر كلما تذكرت ذلك ـ هو الحركة التى كنت تمد لى بها يدك بالكتاب، كانت حركة مرتبكة تقريباً، كما لو أنك تعتذر، كما لو أنك كنت تقدم لى شيئا ضئيلاً جداً، فى حين كنت تمنحنى أفضل ما لديك وتمنحنى ما كان الآخرون ينتظرونه بفارغ الصبر! ما أكثر تواضعك، وما أشد ثبات هذا التواضع! ما أكثر ما أحببتك، وأحبك بسبب هذا، ولم أعرف كيف أعبر لك عن هذا الحب».
اللحظات الأخيرة
«كنا معاً، وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف، ولم أكن أبكى ـ فقد جاءت الدموع بعد ذلك ـ ولم يكن أحد يعرف بعد الذى حدث، كان الواحد منا قبل الآخر مجهولا ومتوحداً، كما كنا فى بداية طريقنا، وفى هذا التوحد الأخير، وسط هذه الألفة الحميمية القصوى، أخذت أحدثه وأقبل تلك الجبهة التى كثيراً ما أحببتها».
بتلك الكلمات وصفت «بريسو» مدى معاناتها في اللحظات الأخيرة التي سبقت وداع زوجها لها للأبد في يوم الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1973، لتبقى ذاكرتها محملة بمجموعة صور تجمع لحظات ومواقف قصة حب خالدة، حتى لحقت بحبيبها عام 1989.
طه حسين مفكر مصري ورائد من رواد الأدب المصري الحديث خلال القرن العشرين، ما جعله يلقب بـ«عميد الأدب العربي"، ولد في 15 نوفمبر 1889، وأشهر مؤلفاته هي رواية «الأيام» التي يسرد فيها سيرته الذاتية كاملة، وروايات «دعاء الكروان» و«الحب الضائع» و«المعذبون في الأرض» و«شجرة البؤس».