قبل مائة عام من الآن.. ماذا حدث لمصر في 1917؟
قبل مائة عام من الآن، وبالتحديد في العام 1917.. كانت مصر على موعد مع مجموعة من الأحداث التي غير بعضها مسار التاريخ تماما.
لم يكن العالم كما هو الآن، ولا مصر أيضا.. أحداث وحروب وتخطيط في العلن والخفاء لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط.. بدءا من وعد «بلفور» ببناء وطن خاص لليهود في فلسطين، وانتهاء بمجموعة من الأحداث مهدت لثورة 1919 التي غيرت مجرى التاريخ المصري الحديث.
مبادئ ويلسون
في يناير عام 1917 أصدر الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون مبادئه الأربعة عشر للسلام والتي تتلخص في حرية الشعوب الكبيرة والصغيرة، وحقها في تقرير مصيرها، وحقها في الاستقلال السياسي.
يقول الرافعي في كتابه «ثورة 1919 .. تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921»: «أنكر ويلسون على الدول القوية استعبادها للدول الضعيفة واستخدامها في مصلحتها الذاتية.. كانت هذه المبادئ بمثابة دستور عالمي استثارات روح الاستقلال والحرية في الشعوب؛ وكانت الأمة المصرية أسبق الأمم إلى تمسكها بحقها في الاستقلال عن بريطانيا؛ خاصة أن بريطانيا كانت من بين الدول التي وافقت على مبادئ ويلسون».
ويضيف الرافعي أن بريطانيا رغم موافقتها على المبادئ، ادعت أنها تحرر الشعوب العربية التي تضعها تحت حمايتها من سيطرة الدولة العثمانية؛ لكن الأمة المصرية كان قد ترسخ في ذهنها أنها بشيء من المقاومة تستطيع أن تنال حريتها.. كانت هذه المبادئ أثرها في التمهيد لثورة 1919.
اتفاقية سايكس بيكو
عندما جاء العام 1916 كانت بريطانيا وفرنسا قد وقعتا اتفاقية «سايكس بيكو» التي تنص على تقسيم الشرق الأوسط وتركيا بينهما. كانت تلك المنطقة واقعة تحت سيطرة الدولة العثمانية، ولم تكن الدول العربية تعرف تقسيماتها الحالية.
أخذت الاتفاقية هذا الاسم نسبة إلى الدبلوماسيين الذين أجريا مفاوضاتها السرية وهما البريطاني مارك سايكس، والفرنسي فرانسو بيكو.
ونصت الاتفاقية على استيلاء فرنسا على غرب سوريا ولبنان، واستيلاء بريطانيا على جنوب ووسط العراق، وولاية عكا وحيفا في فلسطين.
أما روسيا فتستولي على الولايات الأرمينية في تركيا وشمال كردستان، بالإضافة لحقها في حماية مصالح المسيحيين الأزرثوذكس في فلسطين.
وبموجب هذه الاتفاقية أيضا تم وضع فلبسطين تحت الحماية الدولية ثم منحت لليهود بعد وعد «بلفور» في عام 1917.
ظل هذا الاتفاق سريا تماما، حتى وصل الشيوعيين إلى الحكم في روسيا عام 1917، حيث نشرت صحيفة روسية ما تم العثور عليه من وثائق النظام الروسي القيصري؛ ما أثار استياء كبيرا بين أبناء هذه الدول العربية.
أما مصر فكانت تحت الحماية البريطانية منذ عام 1914. لكن اتفاقية «سايكس بيكو» جاءت لتقر هذه الحماية ولينص أحد بنودها على أن الأسكندرية ستكون ميناء حرا لتجارة الإمبراطورية البريطانية.
1919.. حكاية ثورة عنيفة اشعلها الطلاب والعمال وخذلها الساسة
مشروع أول جامعة مصرية
في العام 1917 كانت مصر تمر بتقلبات سياسية وعسكرية كبيرة، ما بين معارك الحرب العالمية وتصاعد الحركات الوطنية المطالبة برحيل الإنجليز.
لكن هذه الفترة لم تخلو من إنجازات كبيرة في جوانب أخرى؛ أحد هذه الجوانب هي التعليم.
ففي فبراير عام 1917 اقترح وزير المعارف عدلي يكن باشا، إنشاء أول جامعة حكومية مصرية؛ ثم تشكلت لجنة لدراسة المشروع واقتراح نظام الجامعة والهيئات المكونة لها وما تشمله من لوائح خاصة بأعضاء هيئة التدريس أو الطلاب أو نظام الدراسة والامتحانات؛ وفقا للموقع الرسمي لجامعة القاهرة.
وفي 17 نوفمبر من العام نفسه قدمت اللجنة مشروعها إلى وزير المعارف، والذي نص أن تضم الجامعة أقسام هي الطب، الهندسة، العلوم، الحقوق، الزراعة، الطب البيطري، التجارة، والعلوم الاقتصادية، على أن تكون لغة الدراسة الأساسية هي اللغة العربية، مع إنشاء قسم خاص للترجمة.
لكن هذا المشروع ظل حبيس الأدراج بسبب الظروف التي شهدتها مصر خلال الحرب العالمية الأولى، ثم اندلاع ثورة 1919 وما صحبها من تغيرات على الصعيد السياسي.. وأخيرا تمت الموافقة على إنشاء الجامعة في ديسمبر 1923.
هزيمة الحملة السنوسية
هي حملة عسكرية شنتها الحركة السنوسية بدعم من الدولة العثمانية والإمبراطورية الألمانية ضد بريطانيا؛ خلال الحرب العالمية الأولى.
نشأت الحركة السنوسية كحركة دينية إصلاحية في مكة عام 1837 ثم انتقلت إلى ليبيا عام 1843 ومنها إلى مصر.
وبعد اندلاع الحرب العالمية بعام واحد، شنت الحركة السنوسية عدة حملات عسكرية في مصر ضد القوات البريطانية، بدأتها في نوفمبر 1915.
وكانت آخر حملاتها ما بين فبراير 1916 وفبراير 1917، باسم «عصابة الواحات» بعد أن سقطت واحات البحرية والفرافرة والداخلة والخارجة في أيديهم.
انتهت هذه الحملة الأخيرة في 2017، بهزيمة السنوسسين وانسحاب قواتهم من مصر إلى ليبيا.. لم يشارك المصريون في المعركة بشكل كبير، لكنهم كانوا ثائرين ضد القوات البريطانية.
معركة القدس ووعد بلفور
كان النزاع بين بريطانيا والدولة العثمانية على فلسطين جزءا من تداعيات الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في 28 يوليو عام 1914 بين قوات الحلفاء التي تمثلت في المملكة المتحدة وآيرلاندا وفرنسا وروسيا القيصرية؛ وبين قوات المحور وهي ألمانيا والنمسا وبلغاريا والدولة العثمانية.
وكانت معركة القدس هي جزء من سلسلة معارك شنتها بريطانيا ضد الأراضي والبلاد التي تسيطر عليها الدولة العثمانية؛ كجزء من الحرب العالمية الأولى.
وكانت مصر في ذلك الوقت واقعة تحت الحماية البريطانية؛ وقبل معركة القدس أرسلت بريطانيا الجنرال إدموند هنري ألمبي لقيادة قوات التجريدة المصرية في حربها ضد القوات التركية في غزة.
وقوات التجريدة المصرية هي قوات عسكرية بريطانية متمركزة في مصر منذ عام 1914 لحماية قناة السويس؛ وقد استغلتها بريطانيا عام 1917 لتخوض بها معركة القدس ضد الدولة العثمانية.
سقطت القدس في يد بريطانيا في ديسمبر 1917 ، وقبل ذلك بشهر واحد وفي 2 نوفمبر من العام نفسه كان رئيس الخارجية البريطاني، جيمس بلفور قد تعهد بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو التصريح الذي اشتهر تاريخيا بوعد بلفور.
إضرابات العمال
عندما جاء شهر أغسطس من عام 1917 كانت مصر على موعد مع موجة من الاضطرابات العارمة.. لم تقودها الحركة السياسية هذه المرة ولكن الحركة العمالية.
كانت الفترة التي تلت وضع مصر تحت الحماية البريطانية قد شهدت ازدهارا في الحركة الصناعية نوعا ما، خاصة مع بعد أن أصبحت مصر جزءا من الاقتصاد العالمي بتصديرها محصول القطن لأوروبا، واهتما بريطانيا بالجانب الصناعي في مصر مثل إنشاء المصانع والسكة الحديد.
كل هذا كان يصب في تزايد الطبقة العمالية في مصر والتي تزايد وعيها أيضا بسبب الظروف الاجتماعية القاسية التي فرضتها الحرب العالمية، وارتفاع غير مسبوق في الأسعار تجاوز الـ100% واختفاء السلع والمنتجات الغذائية، لأن بريطانيا كانت تفرض على الفلاحيين زراعة المحاصيل المناسبة للحرب فقط، إضافة لدور الحزب الوطني بقيادة محمد فريد في التوجه للطبقة العمالية.
نادت هذه الطبقة برفع الأجور وتخفيض ساعات العمل وتحسين شروط العمل القاسية، والاعتراف بالنقابات العمالية.
قاد هذه الاضطرابات عمال مصانع السجائر والترام والسكة الجديدة، ولم تهدأ هذه الاضطرابات حتى تبدأ ثانية، مستمرة في ذلك عامين كاملين حتى اندلعت ثورة 1919.
على مر التاريخ.. ما هو العام الأكثر قسوة على المصريين؟
فؤاد الأول يهادن الإنجليز
تولى فؤاد الأول حكم مصر بعد وفاة السلطان حسين كامل في 9 أكتوبر عام 1917.
حرص فؤاد على مهادنة الإنجليز لضمان عرشه، وحرص أيضا في بداية حكمه على مساندة القوى الوطنية التي كانت تتصاعد بشكل ملحوظ منذ وضع مصر تحت الحماية البريطانية في ديسمبر 1914.
كانت الحركة الوطنية قبل ثورة 1919 وبقيادة سعد زغلول على وفاق مع الملك أحمد فؤاد.. كان الملك يعتقد أن هذه الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال عن الإنجليز ستصب في مصلحة القصر في النهاية، فتعطي الملك المزيد من الاستقلال والحكم الذاتي للبلاد.
كان حزب الوفد المصري بقيادة سعد زغلول يحظى بمباركة الملك فؤاد في مفاوضاته مع الإنجليز، وفي استثارته للشعب والشارع المصري ضد الاحتلال الإنجليزي.. ظلت كل الأطراف على وفاق كامل حتى بدأ سعد زغلول في انتقاد الملك شخصيا، ودعوته إلى دستور يحد من صلاحياته.
نتيجة هذا الحراك السياسي المشتعل بين الإنجليز والوفد والحركة الوطنة والملك، كانت اندلاع ثورة 1919 التي وصفت بأنها أكبر ثورة شعبية في التاريخ المصري.
خرجت الثورة من الجامعات والمصانع احتجاجا على اعتقال بريطانيا للوفد المصري ونفيهم لجزيرة مالطا؛ ثم مالبثت أن عمت الاحتجاجات محافظات مصر كلها.
بريطانيا تستدين من مصر
لم تكن مصر طرفا أساسيا في الحرب العالمية الأولى التي اندلعت عام 1914، لكنها كانت في ذلك الوقت واقعة تحت الاحتلال البريطاني؛ ما يعني أن مصر كانت لها عدة أدوار غير مباشرة في الحرب؛ مثل استخدام الموانئ المصرية كقواعد عسكرية للجيش البريطاني.
أحد هذه الأدوار التي لعبتها مصر هو إقراضها أموالا ضخمة لبريطانيا كتمويل للحرب.
كان هذا بعدما تولى الملك فؤاد الأول الحكم في العام 1917، بعد إطاحة الإنجليز بالسلطان حسين كامل.. كان من المفترض أن يتولى ابن حسين كامل الحكم، لكن بريطانيا تدخلت ليتنازل ولي العهد عن العرش ليتولى فؤاد الأول ابن الخديوي إسماعيل الحكم بمباركة بريطانية.
ووفقا لما ورد بموقع «فاروق مصر» المختص في تاريخ الملك فاروق والأسرة الملكية؛ فإن فؤاد الأول أدرك جيدا أن الإنجليز هم من أطاحوا بوالده الخديوي إسماعيل ثم عزلهم للخديوي عباس حلمي الثاني، وهم أيضا من أوصلوه للحكم؛ لذلك حرص على المهادنة معهم، فكان أول عمل رسمي له بعد توليه السلطنة هو وضع إمكانيات البلد في خدمة الإنجليزي وتبرعه بمبلغ ثلاثة ملايين جنيه لنفقات الحرب، وهو ملغ ضخم جدا في وقتها.
ويقول عبد الراحمن الرافعي في كتابه: «تاريخ مصر القومي.. من 1914 حتى 1921»: «كانت مرافق البلاد وحوالها الصحية والاجتماعية بإنفاق هذه الملايين، بدلا من بذلها إعانة لحرب كان الهدف منها تثبيت الحماية البريطانية على مصر».
احتكار بريطانيا لمحصول القطن
لم يكن التذمر الشديد الذي تصاعد ضد الاحتلال البريطاني مقتصرا على الحركات الوطنية أو السياسية فقط؛ كان الوضع في الريف في العامين الذين سبقا ثورة 1919 متأزما للغاية.
فمنذ الحرب العالمية الأولى وممتلكات الفلاحين ومحاصيلهم الزراعية تصادر من أجل المساهمة في تكاليف الحرب؛ إضافة إلى إجبار الفلاحين على زراعة المحاصيل التي تتناسب فقط مع متطلبات الحرب، وتجنيد شبابهم عنوة للعمل خلف خطوط القتال.
واستمرارا في هذه السياسيات التي تعبئ موارد الدولة كلها لأجل تمويل الحرب، احتكرت بريطانيا في عام 1917 محصول القطن في مصر بسعر أقل بكثير من سعره الحقيقي؛ وألغت جميع عقود التصدير للخارج وحصرتها في عدد محدود من الشركات الأجنبية؛ كما جاء في كتاب الرافعي.
نتج عن ذلك تدهور شديد في الأوضاع المعيشية لسكان الريف وزيادة الأسعار بنسبة تفوق الـ130% لكثير من السلع الضرورية مثل القمح.
مشروع برونيات
في 24 مارس 1917 أصدرت بريطانيا مشروع «برونيات» وهو مشروع تعديلات قانونية يمنح الأجانب الحق في التشريع، كما توضح لطيفة محمد سالم في كتابها «مصر في الحرب العالمية».
وانتهى مشروع برونيات إلى إنشاء مجلسين؛ «مجلس للأعيان أو الشيوخ ويضم الوزراء والمستشارين الإنجليز وكبار الموظفين الأجانب؛ وهذا المجلس يمتلك وحده سلطة التشريع، وتكون الأغلبية للأجانب. أما المجلس الآخر فهو مجلس النواب وسلطته استشارية فقط، وليس له رأي قاطع في مصالح البلاد، وللحكومة أن تتخطاه بإرسال القوانين مباشرة إلى مجلس الأعيان».
لكن هذا المشروع قوبل باحتجاجات شديد سواء من زعماء الحركة الوطنية مثل سعد زغلول أو من ممثلي الحكومة الذين رأوا في في المشروع مزيد من التمكين لبريطانيا.. تقول الباحثة لطيفة سالم في كتابها: «يحسب لرئيس وزراء مصر حسين رشدي، رفضه الشديد لهذا المشروع وتهديده باستقالته إذا خرج هذا المشروع إلى حيز الوجود».
عبادة البهجة في مصر.. الدين والسعادة يسيران يدا بيد