بعد شهر من العرض.. هل عرفت من هم «الأصليين»؟!
منذ خرجت روايته الأولى «فيرتيجو» للنور، يتصدر أحمد مراد، المشهد الثقافي ككاتب من نوع خاص، تثير أعماله الجدل بأفكار شائكة عن قضايا وعرة، ومتحريًا بساطة في الكتابة لا تخلو من إمتاع، لذا تختلف عليه الآراء؛ أحيانًا لأسلوبه السلس البعيد عن رصانة الأدب الكلاسيكية حسب وصف بعضهم، لكن المبيعات العالية دائمًا في صفه شاهدة له.
وعن تجربته في السينما، كانت البداية بكتابته سيناريو «الفيل الأزرق» عن روايته الثالثة فائقة النجاح نقديًا وجماهيريًا، وانتصر الفيلم للرواية بإيرادات تعدت الـثلاثين مليونًا، ليحقق المركز الخامس في قائمة أعلى الأفلام ربحًا في سجل السينما المصرية، لا غرابة إذن في اتجاه «مراد» للسينما مباشرة في فيلمه الثاني بسيناريو مستقل، مع الفريق نفسه إخراجًا و تلحينًا ليكون «الأصليين» عملاً جديرًا بالمشاهدة والتمعن خاصة بعد إعلانه الغامض.
ناهزت أرباح «الأصليين» السبعة ملايين في موسم عيد الفطر السابق الذي طُرح فيه، وهو نفس وقت عرض الفيل الأزرق سنة 2014، مع تصريح صناع الفيلم أنفسهم بأن جمهور العيد ليس هدفهم هذه المرة، فتنفيذ عمل كـ«الأصليين» مغامرة كبيرة في العموم مهما اختلف وقت إطلاقه؛ إذ ان الفيلم ينتهج لغة سينمائية جديدة نوعًا ما على المشاهد، ويحفل بالمعاني البصرية والإسقاطات الحياتية بنمط هاديء ورهيف، غير أنه يترك الجمهور في صدمة وتساؤل يستمران لوقت طويل.
ولعل السؤال البديهي حتمًا عن مغزى عنوان الفيلم، ثم جماليات السينما فيه، التي نالت رضا النقاد، وراء كتابة هذا التقرير الذي يستعرض الفيلم باختصار ويفكر معكم عن معنى وهدف «الأصليين».
بطل غير عادي..يمثلنا جميعًا!
اسمه سمير عليوة، موظف ائتمان مخضرم ببنك، لديه أسرة «حديثة» جدًا إن صح التعبير، بحاجة لمبالغ باهظة طيلة الوقت لأجل رفاهية المأكل والملبس والمسكن وخلافه، لهذا لا يفعل «سمير» شيئًا بحياته سوى العمل والعمل والكثير من العمل، ويترك نفسه للروتين الحياتي حتى يلتهمه ويفرغ نخاع عظمه!، غيته الوحيدة هي تجميع الجرائد العتيقة التي تحوي «تاريخ مصر» رغم تقريع زوجته الدائم له، وهو مطرب فاشل على خشبة مسرح حياته حتى حمله في الخشبة على الأكتاف!
تأتي الطامة الكبرى بإقصاء «سمير» من عمله، وتلك الأفواه الجوعى للأموال الطائلة تنتظره، وتفشل كل محاولاته لإيجاد عمل آخر، ويعجز عن إعلان فجيعته، هنا يظهر حل اللغز وسط اشتداد العتمة، وترسل جهة مجهولة لـ«سمير» ما يثبت مراقبتهم له عن قرب طيلة عمره كله! منذ الطفولة مرورًا بالمراهقة وحتى الكهولة، وبأدق التفاصيل حتى الحميمة منها، فأي جهة تملك القدرة على التجسس لهذه الدرجة؟!
البحث عن الذات في صراع العروش.. هل يربح الأعرج؟
حراس الأرض..روح الوطن!
عين الرب تراقب، وهكذا يفعل الأصليون، يتنصتون على الخلق لأجل مصلحة الوطن حسب زعمهم، وهدفهم نصرة الحق منذ كانت الجريمة الأولى، ويشرح مندوب الأصليين في لفتة دينية ثمينة من المؤلف قائلاً:
- إحنا اللي جبنا حق هابيل من أخوه قابيل اللي قتله.
الأمر مربك ومحير لبطلنا، لماذا أعلنوا عن أنفسهم أمامه؟! الإجابة لأنه «أصلي» مثلهم ويحب وطنه! هل لهذا علاقة بجرائد تاريخ مصر؟ لم يتركنا الحدث للتساؤل، فالعرض الآن لـ«سمير» شبيه بعروض المافيا؛ لا يستطيع رفضه، وهو أن يعمل مع الأصليين براتب شهري يكفل له استمرار حياة أسرته، ويمضي الفيلم في الخط الإضطراري، لنعرف أكثر عن الأصليين!
الهدف.. باحثة في الحضارات!
- مفيش إنسان مبيتراقبش
عرفها «سمير» كقاعدة مع الأصليين، وبالفعل يكون عمله هو مراقبة «ثريا جلال» أستاذة التاريخ، والمهتمة بالمصريات بشكل خاص، والفراعنة وسجلاتهم المحفورة في المعابد والأهرام، والأسرار التي جعلتهم أصل الخيال الخلاق والعبقرية. تتعقب «ثريا» كشفًا مهمًا عن عقلية الفراعنة الفذة، ساعدتهم على استدعاء كل هذا الإبداع. و«ثريا» نفسها «مبدعة» في حياتها، ومجددة في طريقة عيشها بكل طريقة، حتى الزواج لم تتعجل فيه، بعكس «سمير» الرتيب المستسلم.
هكذا يتعاطف «سمير» مع هدفه، وكيف لا وهو رغم طبيعته الطيبة يفتقر لكل حيوية وانطلاق؟! يتأثر «سمير» بـ«ثريا» في اهتماماتها بالقراءة والرقص وبديع الدنيا، وتظنه الزوجة مخبولاً حين يسعى لعيش مشاعر حب حقيقة بخلاف «التفريخ» المعتاد!، ولم يستطع «سمير» أن يقاوم الاقتراب من الهدف أكثر، فيعاقبه «الأصليون» بطريقة عملية مؤثرة، مع نصيحة بمراقبة محيطه الذي يثق فيه، وكانت نصيحة في محلها قادته لكشف آخر مهم عن حياته النمطية، فالأقربون منا أعداء لنا صنعناهم بشكل ما، فماذا عن الأقرب منا تاريخًا ووطنًا؟ رموزنا وأبطالنا في الوعي والتراث.
الفاجعة.. «بهية طلعت شِمال»!
- يا بهية وخبريني..ع اللي قتل ياسين
الموال الشعبي الذي تغني به محمد طه، وشادية وآخرون على الربابة، عن «بهية» التي تمثل مصر كفلاحة حسناء أصيلة قتلوا حبيبها ياسين لتصير قصتها ملحمة فلكلور. الأصليون في الفيلم يتخذون من «بهية» رمزًا لهم ويكثرون من ذكرها، وكأن «عيون بهية» المذكورة في سيرتها هي عيونهم المراقبة، فما رد فعل «سمير» والجمهور حين يعرفون أن «بهية» مجرد فتاة «شِمال» بلغة عصرنا! أكذوبة تاريخية قذرة صدقتها الأجيال لعقود!
الأصليون.. مسألة نسبية
منتج غذائي يصف جودته بجملة «طعم الجبنة الأصلي»، بينما قناة فضائية شعارها يقول «على الأصل دور»، وثمة قاعدة فقهية تقول «الأصل في الأشياء الإباحة»، يتكرر المصطلح كثيرًا في كل مجال حتى الدين، ليصف المنشأ، والجذر، والبكر، وهو غاية كل طامح للنقاء التام والخلق الإلهي، أن يعود للأصل الذي لم تشوهه قرون التطور والتكنولوجيا بكل سلبياتها، كما فعلت بسمير عليوة وأسرته، فهل «الأصليين» في الفيلم كما يزعمون؟!، بكل تجسسهم وتصنتهم؟!
أم أن «ثريا» هي الأصلية حقًا كما كان الفراعنة الذين شغلوها؟! حين عاشوا مع الطبيعة ومنها استمدوا سحرهم وحضارتهم؟، ماذا عن «سمير» المغطى بطبقة سميكة من سخافة المدنية والروتين، هل سينفض عن نفسه كل هذا الثُقل ليصل إلى «الأصلي» بداخله؟، في حين أن كل منا يظن أنه على الحق والأصل، في الآراء والنظريات وحتى المعتقدات، أما الآخرون فمحض مزيفين، لذا يتغير المعنى نسبيًا ويبقى «الأصل» الحقيقي عند خالقه.
منذ أول لقطة. .رموز ستعيش لسنوات!
يصف الفيلم البشر الروتينيين بأنهم كالدواجن، يأكلون وينامون وحسب، ليصيروا مجمدين كالجثث رغم أنهم أحياء! المشهد الافتتاحي نفسه يحوي «أوبرا دجاج متجمد» في متجر كبير، بعدها نرى زوجة سمير عليوة المكتنزة كأنها بالفعل دجاجة! في مشيتها وشكل جسمها المقصود، بعدها نرى «سمير» من الأعلى في وسط البشر كدجاجة في المزرعة.
وحين يظهر الأصليون المتخذين من «العين» رمزًا لهم، نجد عينهم في كل مكان تقريبًا، على الباب ومن سقف الغرفة، حتى القارب يشبه العين نفسها، زوايا التصوير مختلفة رغم الأماكن المشهورة وكأنك لست في مصر التي تعرفها، جرعة رمزية مميزة تتجدد مع كل مشاهدة، كلمات عتيقة من مندوب الأصليين وآلات قديمة كالهاتف ذو القرص، موسيقى موحية مع كل مشهد تعلو بإطراد، والأمر كله متروك لتأويل المشاهد ونظرته الخاصة.
نجاح نقدي بالإجماع مع تحفظ
احتفى النقاد جميعًا بالفيلم بشكل عام، ووصفه الناقد طارق الشناوي بأنه «متكامل» وسط أفلام العيد الأخرى، لجرعة الفن العالية به من إضاءة ومونتاج وتمثيل ساحر من فريق العمل، وهو نفس رأي الناقد محمود عبد الشكور حين أعلن أن الفيلم «الأفضل فنيًا»، وأضاف أن مشاهده بحاجة لتركيز واهتمام من الجمهور لفهمها حق الفهم.
أما الناقد أحمد شوقي، فقد أشاد بمستوى التمثيل و الإخراج المرتفع كالعادة لكنه تحفظ على نهاية الفيلم ووصفها بأنها «مدرسية» زيادة عن اللزوم، رغم أن أول 20 دقيقة كانت عنده في تقييم ممتاز جدًا، وأخيرًا أطرى الناقد أندرو محسن على الفيلم في نفس العناصر، لكنه عاب على تكثيف الفكرة بشكل كبير مما أغفل الإجابة على الكثير من الاسئلة قبل النهاية.