أبو رجيلة.. الرجل الذي يتباكى المصريون على أيامه كلما ركبوا الأتوبيس
إذا قادتك الصدفة للجلوس بجوار أحد كبار السن في أتوبيس النقل العام، وتطرق الحديث لسلبيات منظومة النقل في مصر، فإنه حتما سيحدثك عن «أيام أبو رجيلة»، وكيف كانت مواعيد أتوبيسات العاصمة مضبوطة بالدقيقة.
ولكن من هو عبد اللطيف أبو رجيلة، الذي يتغنى باسمه كبار السن ويتحسرون على أيامه كلما استقلوا أتوبيساً للنقل العام في مصر.. الحكاية يرويها عمر طاهر في كتابه «صنايعية مصر».
البدء من إيطاليا
بعد أن تخرج «أبو رجيلة» من كلية التجارة كان لا يمتلك ما يكفي لأن يبدأ رحلته كرجل أعمال.. جنيهات قليلة تسمح باستئجار مقر متواضع، اشترى بما تبقى آلة كاتبة وعين موظفاً ليساعده، ثم انطلق وفي ذهنه النجاح قبل الثروة، وبمرور الوقت وجد فرصة ما تجعل تجارته تبدأ من إيطاليا.
سافر واستقر وتزوج وكون ثروة التهمتها الحرب العالمية الثانية، لكنه قرر أن يبدأ من جديد، فنجح ثم فكر أن يستقر نجاحه في مصر.
عاد إلى مصر يؤسس مشروعات جديدة تجارية وعقارية وزراعية.. كانوا يضربون به المثل في الثراء، بعد ثورة يوليو لم تكن الصورة واضحة بالنسبة له فقرر العودة إلى إيطاليا.
بعد أن استقرت ثورة 1952، كانت هناك مشاكل كثيرة تؤرق المسئولين، واحدة منها تردي مستوى وسائل النقل، كان النقل حكرا على شركتين كانت لهما السيطرة ففترت همتهم و تدهور مستوى الخدمة.
فكر عبد اللطيف البغدادي (وزير الشئون البلدية وقتها) في الاستعانة بـ«أبو رجيلة»، استدعاه من إيطاليا وأسند إليه مسئولية تنظيم الأتوبيس والنقل في القاهرة.
لبّى أبو رجيلة الدعوة. بعد عامين أصبح اسم الأتوبيسات التي تجري طوال اليوم في شوارع العاصمة، أتوبيسات أبو رجيلة.
إمبراطور الأتوبيس
الكاتب الكبير أحمد بهجت ذكر في شهادته على «إمبراطور الأتوبيس» أن السائقين والمحصلين والمفتشين كانوا على أتوبيسات أبو رجيلة يقدمون نموذجاً جديراً بالاحترام والتقدير في الانضباط وحسن معاملة الركاب، وأداء العمل على الوجه الأكمل وفق المعايير الموضوعة لهم.
كان زمن التقاطر 3 دقائق، باستخدام 400 أتوبيس يخدم 13 مليون راكباً شهرياً. كان كلام «أبو رجيلة» يدور دائما حول أن سيارة الاتوبيس ليست مجرد مركبة تسير في الشارع، بل إنها جزء من نسيج الحياة اليومية للمواطن العادي.
في جراجات «أبو رجيلة» كان عدد كبير من العمال يتولون مهمة تنظيف وتعقيم اسطول السيارات بالمواد المطهرة مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع.
الكمساريات الفاتنات
كان معروفاً عن «أبو رجيلة» أنه يحرص على ركوب إحدي السيارات مرة واحدة على الأقل كل شهر متخفياً لمراقبة النظام، وكان يعمل ساعات أكثر من أصغر عامل عنده، وكان يوزع نقوداً من جيبه الخاص بعيداً عن حسابات الشركة، وفي المقابل لا تهاون مع أحد، وفتح الباب للمرأة للعمل في هذا المرفق وكان أول من وظف كمسارية.
وحتى يساعد الناس علي تقبل الفكرة ساهم في إنتاج فيلم «الكمساريات الفاتنات»، ثم ضم إلى أسطوله سيارات (مرسيدس)، أشاعت البهجة في شوارع القاهرة، وكان الناس يتعاملون معها باعتبارها (خروجة)، وكانوا يتباهون فيما بينهم بانهم (ركبوا النهاردة أتوبيس أبو رجيلة).
صفقات الأسلحة
علي هامش هذه المسيرة كانت مصر تعاني العوز في مسألة صفقات الأسلحة، فطلبت من «أبو رجيلة» أن يساهم في تمويل تلك الصفقات فلم يتأخر.
وعندما وقع العدوان الثلاثي، وضع أتوبيسات شركته تحت تصرف القوات المسلحة لنقل الجنود إلى القناة وتكفل هو شخصياً بأجور السائقين والبنزين.
بعد انتهاء الحرب قرر أن يهدي إلى الحكومة مصنعا للأسمنت أسسه بمشاركة آخرين الهدف منه تخصيص إنتاجه لإعادة تعمير بورسعيد بعد العدوان.
عندما حاول «أبو رجيلة» أن يحول إلى مصر بقية أمواله الموجودة في إيطاليا وواجه تعسفا في هذة المسألة، قرر أن يلجأ إلى السلطات بفكرة أن يوكل إليها مهمة استرداد أمواله ولكن في صورة بضائع عبارة عن ماكينات لأعمال الطرق، ونجحت الفكرة وكان البلد هو المستفيد منها.. لكن هذه المحبة لم تدم طويلاً.
رئاسة الزمالك
تولى «أبو رجيلة» رئاسة نادي الزمالك في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، والذي لم يكن طموحه يدور حول بطولة، وإن كان الزمالك قد حصل علي أول دوري في تاريخه تحت إدارته، لكنه كان مشغولا بفكرة المؤسسة، وكان أول ما فكر فيه أن يكون للمؤسسة مقر يليق بها.
كان مقر نادي الزمالك مجرد ثلاث غرف ومدرج خشبي على نيل العجوزة. كانت خطة أبو رجيلة بناء مقر جديد، اختار منطقة «ميت عقبة» وكانت خليطا من المزارع والمساكن العشوائية الفقيرة، وقبل أن يشرع في البناء قرر أن يمد الكهرباء والمياه لسكان المنطقة على نفقته، ثم بدأ البناء، ثم تعثر قليلاً بعد أن حدث عجز في الميزانية، لكنه وجد الحل بطريقة ذكية.
كان هناك أكثر من شركة بترول مسئولة عن وقود أتوبيسات شركته، وضعهم «أبو رجيلة» في منافسة اضطرتهم لتخفيض الأسعار لتحظي كل شركة بالصفقة منفردة.
نتج عن هذا التنافس تخفيض في ميزانية الوقود بلغت 10.000 جنيه استخدمها الرجل في بناء المدرجات، وخطط لأن تمتليء هذة المدرجات عن آخرها يوم الافتتاح بالناس والفرحة.
ستكون مباراة إفتتاح الملعب مع فريق أوروبي سيحضر علي نفقة أبو رجيلة. وافق فريق دوكلا براج التشيكي، ولتكن ضربة البداية من السماء وليست على الأرض، فاتفق مع طائرة على أن تحلق فوق المدرجات وتلقي من السماء الكرة التي ستلعب بها المباراة، كان يوما للذكرى انتهى بفوز الزمالك بثلاثة أهداف نظيفة.
تشكيك وتضييق
يعز على أي مواطن صالح أن يجد نفسه موضع التشكيك والاهتمام، وخصوصاً إذا كان هذا المواطن من رجال الأعمال الذين يعتمدون على الثقة باسمهم ويعملون لصالح البلد.
كانت هذة كلمات مذكرة رفعها عبد اللطيف أبو رجيلة للحكومة المصرية، بعد أن شعر بثمة تضييق، لم تعد الأمور تجري كما كانت، وكان يشعر أن الأجواء مهيأة لضربة موجعة، واستيقظ أبو رجيلة علي قرار بتأميم شركاته، وتحويل شركة الأتوبيس إلى ( هيئة النقل العام بالقاهرة).
أنهي التأميم مهمة أبو رجيلة في مصر، فغادرها إلى إيطاليا، و بدأ رحلته من جديد من الصفر، يسافر إلى دول أخرى يؤسس بها الطرق وشركات النقل، دون أن ينسيه هذا غصة ما غادر بها بلده، إلى أن عاد إليه مع نهاية السبعينيات.
أحزنه ما آل إليه مشروع أتوبيسات القاهرة شكلاً ومضموناً، وكيف أن الزمالك وضع على المدرجات لافتة باسم شخص آخر. لكن هذا لم يشغله، كان يشغله أن يقول للحكومة أنه موجود إذا أرادت أن تحمي مشروع الأتوبيس من الانهيار، وظل ينتظر أن يتصل به أحد حتى رحل.
بعد رحيله بسنوات قررت إدارة جديدة لنادي الزمالك أن تعيد الحق لأصحابه، فوضعت فوق المدرجات لافتة باسم (عبداللطيف أبو رجيلة)، ثم قررت أن تهدمها لتقيم مكانها ( مولاً تجارياً).
يذكر أن «أبو رجيلة» ابن مدينة إسنا، التابعة لمحافظة الأقصر، وقد ولد في مدينة أم ردمان بالسودان؛ وتعلم في القاهرة، وسافر لإيطاليا قبل أن يعود لمصر مجددا ليكون رائد حافلات النقل العام في مصر.