ما لا تعرفه عن علاقة روزاليوسف وابنها رائد الرواية المصرية
علاقة إحسان عبد القدوس بأمه روز اليوسف تحتاج إلى الكثير لفهمها، فلم تكن علاقة أم بابنها فقط، ولكنها كانت قصة حب غير عادية، وعلاقة عمل قوية ساند خلالها كل منهما الآخر في أزماته ووقف في ظهره أمام مصدات الحياة المختلفة.
اسمها الحقيقي فاطمة اليوسف. ولدت عام 1897 في أسرة مسلمة ببيروت وكانت يتيمة الأم، وعاشت في كنف أسرة مسيحية لقبتها بـ«روز».
انتقلت إلى مصر والتحقت ببعض الفرق المسرحية، إلى أن اعتزلت التمثيل في العام 1925 وأصدرت مجلة فنية باسم «روزاليوسف» حولتها فيما بعد إلى صحيفة.
تزوجت محمد عبدالقدوس وأنجبت منه «إحسان» الذي عمل بالصحافة وقام بتأليف عدد من القصص والروايات التي تحول بعضها إلى أعمال سينمائية مثل «أنا حرة» و«لا أنام» و«الرصاصة لا تزال في جيبي».
الطفل مهدد بالموت
تفاصيل علاقة «إحسان» بفاطمة اليوسف مليئة بكثير من الحكايات روتها الأم في مذكراتها التي نشرتها في كتاب صدر عن مؤسسة «روزاليوسف»، وكانت إحداها واقعة عن ولدها وعمره 6 أشهر.
تقول: «كنت في ذلك الوقت لا أزال شابة السن، همي كله منصرف إلى المستقبل الذي أحلم به، واسمي الذي أريد أن أبنيه والنشاط الذي كاد ينسيني نفسي وبيتي، وكل ما يتعلق بحياتي الخاصة.
فجأة تركتنا المرضعة التي كانت تعتني بـ«إحسان»، واضطررت أن استخدم في طعامه اللبن العادي الذي يباع في الأسواق، وإذ به يصاب بتلبك خطير في المعدة، حتى بدأ يهزل وتسكن حركته، ويضعف الخيط الذي يربطه بالحياة، ووجدت نفسي أنسى العمل الذي أنهض به، والمجد الذي أبحث عنه، وأنسى كل شيء إلا أنني أم وأن ابني في خطر.
أسرعت به إلى الطبيب، وكان الدواء الذي وصفه له يقتضي مني أن ألازمه خمسة وثلاثين يوماً لا أبعد فيها عن فراشه شبراً واحداً، ولم أشعر بضجر من البقاء في البيت طيلة هذه الأيام، ولم أشعر بفراغ وأنا أنسى مشاكل الحياة العامة لأحصر تفكيري في هذا الفراش الصغير.
ولست أنسى يوم فتح إحسان فمه لأول مرة ليبكي بعد أن أسكته المرض هذا الزمن الطويل، وجريت إلى الطبيب أقول له: إنه بكى.. فقال لي: أبشري.. إنها علامة الشفاء».
وتروى فاطمة اليوسف: «شعرت بعدها بأن أحلامي قد تحققت وأن جهادي قد تكلل بالنجاح وامتلأت حياتي إلى آخرها، وصرت أفرح إذا بكى وأقلق إذا هدأ».
أيام الدراسة الأولى
وتتذكر روز اليوسف ابنها وقد أصبح تلميذاً في المدرسة الإبتدائية، يذهب إلى المدرسة ويعود منها في بنطلونه القصير، وفي يمينه حقيبة الكتب، فإذا جاء يوم الجمعة أعطته 10 قروش لينفقها في نزهته. تقول إنه «ظل يتمسك بأخذها كل أسبوع حتى بعد أن كبر وتزوج وأصبح يكسب مئات الجنيهات».
كان «إحسان» وهو في هذه السن يجد كل الأمهات مقيدات في البيوت عدا أمه، وكان هذا يدهشه، فكلما رآها تتهيأ للخروج مع الصباح يسألها: إنتي رايحة فين؟ فترد: رايحة الشغل، فكان يغضب فتقول له: بكره لما تكبر وتخلص تعليمك تبقى تشتغل مطرحي وأنا أقعد في البيت.
كرباج على الوجه
أول احتكاك لـ«إحسان» بالسياسة كان وهو تلميذ في مدرسة فؤاد باشا الثانوية. وكانت مظاهرات الطلبة سنة 1935 تجوب الشوارع هاتفة بائتلاف الزعماء وإعادة الدستور، وكانت والدته جالسة بمكتبها في الجريدة اليومية حين دخل عليها وقد احتقن وجهه، وعلى خده الأيمن آثار كرباج ذي ثلاث شعب، وقد ازرقت خطوطه واحتبس خلفها الدم.
سألته: ما هذا؟ فقال: عسكري إنجليزي.
روت: «عرفت أنه كان يسير في المظاهرات فلم أعترض على ذلك وجاهدت ألا يبدو علىّ أنني اهتززت لرؤيته على هذه الصورة، أما هو فلم يبكِ قط، وقد ورث هذه العادة عني».
من يومها بدأ يشترك في نشاط الطلبة السياسي والوطني، وكان يجلس معي ويستمع إلى الأنباء السياسية ثم يعود في الصباح التالي إلى مدرسته ليشعل ثورة.
إمضاء «سونة»
أول اشتغاله بالصحافة كان ورائه حكاية روتها والدته. حدث أن سافر في العطلة الصيفية إلى الإسكندرية، وتصادف أن مرض مراسل «روزاليوسف» هناك فجأة، في حين أن النشاط السياسي كله كان متركزاً في هذه المدينة، فاتصلت بـ«إحسان» تليفونياً وطلبت منه أن يحاول الحصول على بعض الأخبار وأن يرسلها لها فوراً.
دهش «هيكل» من هذا التلميذ الصغير الذي يطلب منه أخباراً بهذه الطريقة وقال له: أخبار إيه يا ابني؟ فقال «إحسان»: ماما قالت لي هات أخبار!
زادت دهشة «هيكل» حتى علم أنه ابن روز اليوسف، فضحك كثيراً ورحب به، وأرسل لوالدته يومها أخباراً كثيرة.
بدأ «إحسان» في هذه المرحلة يكتب من حين لآخر قصة، أو حادثة، أو شيئاً من هذا القبيل، وكانت والدته تختار الصالح منها وتنشرها تشجيعاً بإمضاء «سونة» فهو أول توقيع صحفي له.
الشعر زيرو
صار «إحسان» كلما اقترب من نهاية دراسته يزداد حماسة لهذه النهاية. كان في كلية الحقوق ولم يتبقى على الامتحان سوى أسابيع قليلة فحبس نفسه في البيت، وحلق شعر رأسه كله حتى يضمن ألا يخرج ويترك دراسته مهما كانت المغريات. وكان إذا سألته والدته لماذا يحلق شعره هكذا؟ قال ضاحكاً: علشان البنات ما تعاكسنيش يا ماما.
رئيس التحرير
فرغ «إحسان» من امتحان الليسانس وعاد من الكلية مسرعاً قبل أن تظهر النتيجة فاحتل مكتباً في المجلة، وأعلن نفسه رئيساً للتحرير، ولما اعترضت أمه على ذلك قال لها: أمال أنا كنت باتعلم ليه؟ مش علشان أشتغل وأنتي تستريحي.
حاولت الأم أن تقنعه بأنه لا بد له من بعض التمرين قبل أن يرأس تحرير المجلة، ولكنه أبى ورفض أن يعمل في «روزاليوسف» إلا رئيساً للتحرير. ولما أخذت عليه هذا العناد قال لها كالعادة: هو أنا جايب العناد من بره، وكأنه أراد أن يثبت لها أنه يستطيع أن يمضي بمفرده وأنه لا يطالب بذلك لمجرد أنه ابن صاحبة المجلة.
ذهب «إحسان» إلى محمد التابعي الذي كان يصدر «آخر ساعة» فالتحق بها، وكانت والدته تعطيه لقاء تمرينه في «روزاليوسف» ست جنيهات فأعطاه «التابعي» خمسة وعشرين.
انتظرت «روز» أن يعود إليها «إحسان» ولم يعد حيث نجح في «آخر ساعة»، فاتصلت بـ«التابعي» معاتبة ومتشاجرة لإغرائه ابنها بالعمل معه، وهاجمته بشدة رغم سرورها لنجاح ابنها.
السجن للابن
في عام 1945 عاد «إحسان» إلى «روزاليوسف» وكتب فيها أول مقال نشر في الصحف المصرية ضد اللورد كيلرن، وصادر النقراشي باشا رئيس الوزراء وقتها المجلة وقبض على «إحسان» وسجنه.
ومن فرط حب فاطمة اليوسف لابنها حاولت أن تدخل السجن بدلاً منه. فثار «إحسان» على أمه، وشهد مكتب وكيل النيابة مناقشة حادة بينهما فكل منهما يريد تحمل المسئولية.
بناء على تحقيق النيابة تحمل «إحسان» المسئولية ودخل السجن، وعند خروجه عينته والدته رئيساً للتحرير وتركته يدخن أمامها للمرة الأولى في حياته.
ابن روزا
في بداية حياته العملية هوجم من إحدى الصحف التي دأبت على مهاجمته كل صباح في صفحاتها الأولى تحت اسم «ابن روزا». عندئذٍ قرر «إحسان» الهروب واعتزال الكتابة، فجاءت له أمه بمجموعة أعداد من مجلة «الكشكول» صارخة فيه «اقرأ ما كانوا يكتبونه عن أمك».
كان ما هو مكتوب جارحاً أكثر مما كتب عنه مثل «إلى عماد الدين يا روزا»؛ أي لا علاقة لك بالصحافة فاذهبي إلى شارع التمثيل، وقالت له أمه: أين «الكشكول» الآن؟ لقد اختفت وبقيت أنا «روزاليوسف»، فإذا كنت تؤمن بما تكتبه فاكتب وهذا هو المهم.
هذه بعضاً من كثير من الحكايات التي سطرت علاقة الأم بابنها حتى استطاع أن يثبت أقدامه في بلاط صاحبة الجلالة، وأن يصبح أحد أعمدة كتابة الرواية في مصر والوطن العربي.