رئيس التحرير أحمد متولي
 باقي زكي يوسف‏..‏ ضابط المركبات مدمر خط بارليف بـ«الطفاشة»

باقي زكي يوسف‏..‏ ضابط المركبات مدمر خط بارليف بـ«الطفاشة»

قبل حرب أكتوبر عام 1973 كان خط بارليف معجزة عسكرية بكل المقاييس، كما أن تدميره كان يحتاج إلى معجزة أخرى في زمن انتهت فيه المعجزات.

وأكد الخبراء العسكريين في ذلك الوقت أن القائمين على خط بارليف درسوا الحصون العسكرية التي شيدت على مر التاريخ، واستفادوا من الأخطاء التي أدت لسقوطها فيما بعد، ومن ثم فإنه لا مجال لعبور المصريين للضفة الشرقية من قناة السويس. 

ولكن شاب مصري في بداية الثلاثينيات من عمره كان له رأي آخر، حيث اكتشف 3 أخطاء دفعة واحدة، الأولى: أن الساتر الترابي يعتمد في تكوينه علي الرمال، والثاني: أن الساتر الترابي تمت إقامته بزاوية مائلة (80 درجة)، والثالث: أن الساتر أقيم على حافة الضفة الشرقية.

ما حكاية هذا الشاب وكيف توصل إلى هذه الأخطاء التي مهدت الطريق لنصر أكتوبر؟ القصة كاملة رواها عمر طاهر في كتابه «صنايعية مصر».

من السد إلى الجبهة

البداية كانت من إدارة المركبات بالجيش المصري حيث وصل الأمر بترشيح بعض الضباط للعمل كمنتدبين في مشروع السد العالي، وتم اختيار الضابط الشاب، باقي زكي يوسف مع آخرين للسفر.

هناك كان العمل يجري على مدار الـ24 ساعة، وكان الضابط الشاب أحد المسئولين عن إذابة الجبال التي تحيط بمكان مشروع السد العالي والاستفادة من الرمال والصخور المذابة في بناء جسم السد نفسه.

بعد النكسة صدرت الأوامر لكل الضباط المنتدبين بالعودة إلى مواقعهم. عاد «زكي» كرئيس لفرع المركبات في إحدى تشكيلات الجيش الثالث، فكان يمارس مهامه ويراقب خط بارليف الذي يقف بارتفاع 20 متراً، وبطول 180 كيلومتراً، بأكثر من 19 موقعا حصينا مجهزة بالألغام والمفرقعات.

وفقاً لكلام القادة في ذلك الوقت فإن فتح ثغرة واحدة بالمدفعية في الساتر الترابي للمرور يحتاج لـ15 ساعة وخسائر بشرية تفوق الوصف، لكن «زكي» كان يرى أن كل مشكلة ومعها الحل.

قانون نيوتن الثاني

في مايو 1969 تم استدعاء باقي زكي يوسف مع غيره من القادة داخل التشكيل، وأخبرهم قائد الفرقة بصدور أمر بالعبور إلى الضفة الشرقية في أكتوبر من العام نفسه. خلال الاجتماع كان قائد كل فرع يطرح وجهة نظره مدعومة بتقارير عن الساتر الترابي وتقديره للعملية.

حتى هذه اللحظة لم يكن لدى المقدم باقي زكي يوسف أية فكرة يمكن طرحها، حتى تحدث ضابط الاستطلاع عن كون الرمال هي التي تشكل الساتر الترابي، هنا رفع «زكي» يده طالباً الكلمة، سأله قائد الفرقة عما ينوي أن يتحدث فيه، فقال: الساتر الترابي، قال القائد: ده مش شغلك أنت ظابط مركبات، أصرّ «زكي» على طلب الكلمة، فسمح له.

قال المقدم: طرمبات ماصة- كابسة على زوارق خفيفة تسحب المية وتضخها بقوة اندفاع عالية المية هتحرك الرملة وهتجرها على القناة وتتفتح الثغرة.

سيطر الصمت علي المكان. كان الحوار في بدايته يدور حول فتح الثغرة بالمفرقعات، والألغام، والمدفعية، والطيران، فظهر شخص يتحدث عن خرطوم مياه.

قطع المقدم حالة الصمت قائلاً: إحنا عملنا كده في السد العالي. قال له قائد الفرقة: ولكن ما الذي يضمن أن تتحرك الرمال بالطريقة التي ذكرتها؟ قال المقدم باقي: الذي يضمن هو قانون نيوتن الثاني الذي يقول: إذا أثرت قوة أو مجموعة قوى على جسم فإنها تكسبه تسارعا يتناسب مع محصلة القوى المؤثرة.

قال له القائد: من الممكن أن يتم فتح الثغرة لكن هذا لن يجعلها مستوية تماما للعبور، فقال المقدم باقي: مرور المدرعات والدبابات سيمهد الأرض تماماً، إلى أن يستطيع سلاح المهندسين تسويتها.

قال له القائد: وما الذي يجعلك تثق في فكرتك إلى هذه الدرجة؟ قال المقدم باقي: الساتر الرملي زاويته مائلة وعلى حافة القناة.

انتشرت الهمهمة في المكان، ونظر قائد الفرقة إلى ساعته وكانت تقترب من منتصف الليل، اتصل بقائد الجيش، فطلب منه أن يحضر المهندس إلى مكتبه في صباح اليوم التالي.

استمع قائد الجيش للفكرة ثم طلب من المقدم «باقي» أن يتوجه لقائد العمليات الذي كاد أن يحطم «بنورة» زجاج مكتبه عندما ضربها بيده قائلا «هي ما تجيش غير كده».

موافقة ناصر

في طريق العودة إلى بيته مر المقدم باقي بمقر وزارة السد العالي، وأخذ كل ما استطاع أن يحمله من لوحات ونشرات وصور، وعاد بها إلى قائد الفرقة ليشرح له بصورة أوضح ما فعلوه هناك في أسوان، طلب منه القائد أن يقدم له تقريرا في أسرع وقت.

في صباح اليوم التالي قال له القائد إنه يريد التقرير اليوم لأنهم سيجتمعون بالرئيس جمال عبدالناصر. وأحضر المقدم باقي ما أنجزه ثم كتب منه نسخة بالآلة الكاتبة وقدمه.

بعد أسبوع أرسل قائد الفرقة في طلبه، سأله أين مسودة التقرير؟ أحضرها المقدم باقي، فأشعل القائد فيها النيران داخل مكتبه، ثم قال له: لقد أصبح الموضوع سريا للغاية، لقد وافق عبدالناصر على الفكرة.

بعد أن قام قائد الفرقة بحرق المسودة التي كتبها المقدم باقي، قال له: لقد حصلت اليوم على إمضاء هو من أشرف الإمضاءات العسكرية بموافقة ناصر على فكرتك. قال له المقدم باقي: البركة في حضرتك، فقال القائد: «انت مش عارف انت عملت إيه؟، انت ادتنا (الطفاشة) اللي هنفتح بيها الباب لمصر.

ترتيبات القدر

خمس سنوات في عز الحرب العسكرية والمخابراتية ومصر تكتم سر «الخراطيم»، تشتري طلمبات من انجلترا وألمانيا وتجري تجارب دون أن يشم أحدهم خبراً عن الموضوع

كانت ترتيبات القدر محكمة للغاية، عندما داعب قائد الفرقة أحد المهندسين قائلا له لماذا لم تقدم فكرة مثل فكرة المقدم باقي؟ قال له: ساعة الانتداب اخترت أنا أن أظل في مكتبي، واختار المقدم باقي أن يسافر إلي أسوان.

كان الوضع سيصعب أكثر لو أن الساتر الترابي أقيم بزاوية قائمة، ساعتها سينهار فوق الجنود التي تحمل الخراطيم، ومن ثم فإن إقامته بزاوية مائلة جعل انجراف الرمال باتجاه القناة طبيعيا وفي مساره التلقائي.

كان الوضع سيصعب أكثر أيضاً لو لم تتم إقامة الساتر الترابي على حافة القناة مباشرة. لو كان أبعد قليلا بعمق نصف كيلو متر لفشلت الفكرة كلها، حيث ستتحول هذه المساحة بفعل الخراطيم إلى بركة تضيف إلى العملية عائقاً جديداً يمنع التقدم على الأقدام أو المركبات، ووجود الساتر على الحافة مباشرة جعل الرمال لا تعرف موضعاً لانهيارها سوى عمق القناة، فينفتح الطريق.

 

تجربة الفكرة

أصدر عبد الناصر أوامره بأن تتم تجربة الفكرة، فكان التطبيق الأول لها في حلوان عام 1969، وكانت مفاجأة أن يتم فتح الثغرة في نموذج مماثل بطلمبات السد العالي في 3 ساعات بدلاً من الـ15 المتوقعة.

تمثل الرهان بعد نجاح الفكرة في كيفية الوصول إلى أكثر الطلمبات كفاءة وخفة، وتدريب الجنود في الوقت نفسه. بعد أربع سنوات في يناير 1972 تم عمل بروفة نهائية في جزيرة البلاح داخل القناة على نموذج مماثل، فكانت النتيجة مبهرة. بعدها بعام تم العبور.

خمس سنوات في عز الحرب العسكرية والمخابراتية ومصر تكتم سر «الخراطيم»، تشتري طلمبات من انجلترا وألمانيا وتجري تجارب دون أن يشم أحدهم خبراً عن الموضوع، وتلك معجزة أخرى.

شاهد الفيديو

المصدر

  • كتاب «صنايعية مصر». عمر طاهر.

محمد أحمد

محمد أحمد

صحفي يكتب في التراث والثقافة الشعبية