الشبراويشي.. هذه حكاية صاحب الكولونيا الأشهر في تاريخ مصر
لم يكن يجول بخاطر حمزة الشبراويشي في يوم من الأيام أن يتحول مصنعه الذي غزا بيوت المصريين بكولونيا «555» إلى مقلب للقمامة، وأن يصبح منزله الكائن في حي المعادي مقراً للسفير الصهيوني.
ولكن ما حكاية «الشبراويشي» الذي كان منتجه دائم التواجد في البيوت المصرية سواء في أحزانها وأفراحها، وفي صالونات الحلاقة، وضمن جهاز العروسة بل وفي السيارات أيضاً.
الحسين والموسكي
من قرية شبراويش في محافظة الدقهلية خرج «الشبراويشي» لا يحمل شيئاً سوى ذائقة فريدة وموهبة في صنع «أسنسات» العطور. وفي البداية استقر في منطقة الحسين وافتتح محلاً صغيراً لبيع العطور التي يصنعها بيديه.
وعرف النجاح سريعاً فافتتح فرعاً في الموسكي ثم وسط البلد، ثم قرر أن يتحول معمله الصغير إلى مصنع، فاشترى قطعة أرض صغيرة في منطقة دار السلام.
وكلما توافر لديه بعض المال كان يشتري قطعة مجاورة لتوسعة المصنع، وكان يزرع بنفسه الليمون الذي يستخدمه في تصنيع الكولونيا.
كان الملك فاروق يقدم سنوياً جائزة لأفضل حديقة منزل، وكان منزله في المعادي بقطعة أرض حوالي فدان تفوز بالجائزة كل سنة، وكان في عيد الأم يقيم نافورة في أرض المعارض بالجزيرة تضخ الكولونيا طوال اليوم، وتوسع نشاطه حتى أصبحت منتجاته تفصيلة ثابتة فى حياة المصريين: الكولونيا، وبودرة التلك، ومستحضرات التجميل.
ولم يكن «الشبراويشي» مهتماً بالسياسة، وقاوم إغراءات كثيرة لشراء مصنعه. كان رجل الأعمال، أحمد عبود باشا يطارده ليل نهار لشراء المصنع، لكنه كان يؤمن بأن ما يقدمه غير صالح للبيع.
ناصر والكولونيا
عندما قامت ثورة يوليو في عام 1952 جرت في مصر متغيرات أهمها ما يرتبط بتأميم المشاريع، ورغم ذلك في كل مرة كانت توضع أمام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قوائم بأسماء ستخضع لقرار التأميم كان ناصر يشطب على اسم حمزة الشبراويشى، لا يلتفت إلى وشاية أو تقرير أمني.
كان ناصر يؤمن بأن «الشبراويشي» رجل عصامي و ليس إقطاعياً، ويمثل مصر بصناعة وطنية، فمنتجاته في كل بلد عربي. في مصر تحمل اسم «555» وفي السعودية تحمل اسم «سعود» وفي السودان تحمل صورة مطربهم الأشهر عبد الكريم كرومة، وفي مصر أيضا كانت أم كلثوم بطلة إعلانات منتجات «الشبراويشي» في الصحف.
وعندما اقترضت مصر من أجل بناء السد العالي كان يتم سداد جزء من هذه القروض في شكل عيني (ثلاجات إيديال، منسوجات قطنية، أثاث دمياطي) وكانت كولونيا «555» تحتل موقعاً مهما في هذه القائمة.
من جهة أخرى كان ناصر زبوناً لمنتجات «الشبراويشي». يحكي أحد القيادات الأمنية أنه عندما كان ضابطاً صغيراً مسئولاً عن تأمين مؤتمرات الاتحاد الاشتراكي وصل أحد موظفي الرئاسة يحمل للرئيس حقيبته الخاصة، وأصر الضابط على تفتيشها، قال: وجدت فوطة، وفرشة شعر، وخرطوشة سجائر، وزجاجة كولونيا «555». وكان قراره صارماً، لن نؤمم «الشبراويشي». لكن لماذا تراجع الرئيس؟
وشاية وتأميم
أصيب حمزة الشبراويشي بجلطة مع نهاية عام 1965، وسافر إلى سويسرا لتلقي العلاج. ولم يكن يعرف أن ناصر يستبعده طول الوقت من قرارات التأميم، لو كان يعلم ما خاف أن يرجع، كان يتابع من سويسرا أخبار الأذى الذي يتعرض له أصحاب بعض الصناعات، فقرر أن تكون العودة إلى بيروت بعد أن تم الشفاء.
وهناك افتتح مصنعاً صغيراً لتصنيع العطور كبداية جديدة بعيدة عن الجو العام في مصر. واستغل البعض ما حدث وكانت الوشاية مكتملة الأركان. حمزة الشبراويشي هرب من مصر إلى لبنان وسيستقر هناك بعد أن يصفى أعماله ويسحب أمواله كلها.
هنا كان قرار عبد الناصر بفرض الحراسة على ممتلكات «الشبراويشي»، وتم عرضها للبيع، وكان المقابل الذي دفعته شركة السكر والتقطير لشراء مصنع «الشبراويشي»، والمحلات، والاسم التجاري، والمنزل وبعض الفدادين زهيداً للغاية لم يتجاوز مبلغ 165 ألف جنيه.
عرف حمزة الشبراويشي الخبر وفهم أنه لا مجال للعودة، فاستمر في لبنان ينتج ويواصل نجاحه حتى توفى مع نهاية الستينيات وعاد إلى مصر جثماناً ليدفن فيها حسب وصيته.
كان «الشبراويشي» يعتبر عمال المصنع شركاءه في التجربة وكانوا على قدر المسئولية فحافظوا عليه من بعده واستمرت منتجاته ناجحة، وعندما مات شيعوه سيراً على الأقدام من ميدان التحرير إلى مدفنه.
السفير الصهيوني
عاشت الثلاث خمسات في وجدان المصريين سنوات طويلة، لكن «السبرتو» مادة طيارة لا تبقى على حالها، فبيت المعادي الذى حصل على كأس الملك فاروق تحول بعد فرض الحراسة بسنوات إلى منزل للسفير الإسرائيلى منذ عام 1980 حتى رحل عن المعادي.
ومصنع دار السلام مهجور ومغلق منذ أكثر من 15 عاما وتحول إلى مقلب للقمامة، أما الكولونيا نفسها فقد صار البعض يراها مناسبة للسخرية، أما البعض الآخر فيراها جزءا من تاريخه.