حكاية أول اتصال رسمي بين المسلمين وإمبراطور الصين
إن الذين قالوا عن الصين إنها «جنة المؤرخين» لم يبالغوا في إطلاق هذا الوصف على الإطلاق. بل هم صادقون مائة بالمائة. إن سجلاتهم تروي بتفصيل مذهل أحاديث مفصلة عن تاريخ الصين من عام 3000 قبل الميلاد.
ذلك أن بلاد الإمبراطور «ابن السماء» كان يضم مؤرخين رسميين يسجلون كل ما يقع من أحداث في البلاط، بمنظور صيني رسمي للغاية.. يقول الكتاب فهمي هويدي في كتابه «الإسلام في الصين: «هو تاريخ الإمبراطور صحيح، ولكن يبنعي ألا ننسى أن الإمبراطور كان كل شيء تقريبا».
في هذا التقرير نرصد لكم حكاية أول اتصال رسمي بين المسلمين والصينيين.
تتفق المصادر الصينية والعربية على أن أول اتصال رسمي بين المسلمين والصينيين كان في فترة حكم أسرة تانغ، التي حكمت الصين حوالي ثلاثة قرون (618-907 م)، وذلك في عهد الإمبراطور قاوتسنغ عام 651 ميلادية (30-31 هجرية).
ماذا تقول السجلات الصينية؟
وفي السجلات الصينية أنه في 25 أغسطس سنة 651 وصل إلى تشايغآن- مدينة شيان اليوم وعاصمة الصين آنذاك – أول مندوب عربي مبعوثا من الخليفة عثمان بن عفان، حيث التقى بإمبراطور الصين قاوتسنغ.
وفي تاريخ أسرة تانغ القديمة أن الوفد القادم « من أرض بعيدة جدا نقل إلى الإمبراطور أنباء جزيرة العرب، التي شهدت ظهور نبي بعثه الله من بين العرب داعيا إلى التوحيد».. و«أن ملكهم يدعي هنجي مومبي (أي أمير المؤمنين) وأن حكومتهم أسست منذ 24 سنة، وقد مضى منهم ثلاثة ملوك حتى الآن».
المصادر الصينية لا تذكر الأسباب التي دعت خليفة المسلمين عثمان بن عفان إلى إرسال وفده للقاء الإمبراطور، كعادتها في إبراز الإمبراطور الصيني «ابن السماء» باعتباره «القبلة» التي يتوجه إليها الآخرون بالسؤال والتحية.
ولكن حقيقة الأمر غير ذلك، بحسب الكتاب فهمي هويدي، الذي يذكر في كتابه «الإسلام في الصين» أن «المصادر العربية والغربية تقول: إن ملك الصين هو الذي بادر بإرسال مبعوثيه إلى خليفة المسلمين».
حقيقة قصة أول اتصال بين المسلمين والصينيين
وحقيقة القصة أنه بعد هزيمة الفرس والروم على أيدي المسلمين، فإن كليهما أرسل إلى ملك الصين يستغيث به ويهول في خطر قوة المسلمين الصاعدة، مدعيا أنهم سوف يسيطرون على التجارة، الذي يهم الصين.
ويذكر «الطبري» أن «يزدجرد» ملك الفرس أوفد بعد هزيمته في معركة «نهاوند» مبعوثه إلى ملك الصين، وعندما سألوه عما وراءه فقال: لما قدمت على ملك الصين بالكتاب والهدايا كافأنا بما ترون (بهدايا مماثلة) ثم قال لي: قد عرفت حقا على الملوك اتحاد الملوك على من غلبهم، فصف لي صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإني أراك تذكر قلة منهم وكثرة منكم، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذين تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلا بخير عندهم وشر فيكم.
قلت - الكلام هنا لرسول ملك الفرس - «نعم»، قال: وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم! قلت: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم، فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة أو المنابضة. قال: فكيف طاعتهم أمراءهم! قلت: أطوع قوم لمرشدهم. قال «فما يحلون وما يحرمون»، فأخبرته. فقال: أيحرمون ما حلل لهم أو يحلون ما حرم عليهم؟ قلت: لا، قال: فإن هؤلاء قوم لا يهلكون أبدا حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم. ثم قال: أخبرني عن لباسهم، فأخبرته، وعن مطاياهم، فقلت: «الخيل العراب»، ووصفتها فقال: نعمت الحصون هذه. ووصفت له الإبل وبروكها وانبعاثها بحملها، فقال «هذه صفة دواب طوال الأعناق».
وكتب إمبراطور الصين إلى يزدجرد: «أنه لم يمنعني أن ابعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي. ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحالون الجبال لهدوها، ولو خلى سربهم أزالوني ماداموا على وصف، فسالمهم وأرض منهم بالمساكنة ولا تهيجهم ما لم يهيجوك!».
رسالة كاوتسنغ
يقول هويدي في كتابه «بعد أن ترامت هذه المعلومات إلى مسامع إمبراطور الصين، فإن كاوتسنغ أرسل مبعوثيه إلى خليفة المسلمين للوقوف على حقيقة هذه القوة الصاعدة في الجزيرة العربية. وإزاء ذلك بعث عثمان بن عفان برسله إلى ملك الصين للتحية والتبليغ بالدين الجديد.
ويذكر هاري هازارد في أطلس التاريخ الإسلامي أن الخليفة أرسل ثلاث بعثات لا بعثة واحدة إلى الإمبراطور في تشانغآن. وهو ما يشك فيه الدكتور فيصل السامر في كتابه الأصول التاريخية للحضارة العربية الإسلامية في الشرق الأقصى، مشيرا بحق إلى أن حكم عثمان بن عفان شهد في سنواته الأخيرة فترة عصيبة مضطربة؛ الأمر الذي لم يكن يتيح لأمير المؤمنين أن يتوجه باهتمامه إلى الخارج على هذا النحو.
ولا يستبعد السامر أن تكون البعثتان الثانية والثالثة قد أرسلتا بواسطة قادة المسلمين المحليين في المناطق الشرقية المفتوحة.
رواية أخرى
ويسجل توماس آرنولد، رواية أخرى حول أول اتصال بين المسلمين وإمراطور الصين، فيقول في كتابه «الدعوة إلى الإسلام» إن الذي استنج بإمبراطور الصين هو فيروز بن يزدجرد، بعد وفاة أبيه مهزوما وشريدا، فبعث الإمبراطور إلى فيروز يعتذر عن نجدته بحجة بعد الشقة بين بلاد الصين والفرس، وأن الإمبراطور أرسل بديلا عن ذلك مبعوثا إلى خليفة المسلمين للدفاع عن قضية الأمير الهارب فيروز.
ولا يستبعد آرنولد أن يكون إمبراطور الصين قد طلب من مبعوثه أن يتقصى أحوال هذه القوة الجديدة. وفي عودته أرسل عثمان بن عفان أحد قادة المسلمين ليرافق مبعوث إمبراطور الصين، فاكرم الإمبراطور وفادته.
وتذكر المصادر الصينية أن المبعوثين العرب وفدوا إلى الصين طوال حكم أسرة تانغ 37 مرة، وقد دام حكم هذه الأسرة حوالي ثلاثة قرون، وهي فترة تغطي عهد الخليفتين عثمان وعلي، والعصرين الأموي والعباسي.