فتّش عن العقيدة الألفية.. لماذا يساند الأمريكيون إسرائيل على طول الخط؟
منذ قيام دولتها في عام 1948 وحتى الآن تلقى إسرائيل كل الدعم من الولايات المتحدة الأمريكية مهما اختلفت المواقف والأحداث. ولكن ما لا يعرفه كثيرون أن هذا الدعم سبق إعلان الدولة اليهودية بأربعة قرون استناداً إلى معتقدات دينية تبنتها طائفة «البروتستانت» عقب هروبهم من الاضطهاد الديني في أوروبا إلى أمريكا وشكلوا غالبية المهاجرين لبلاد «العم سام».
ولكن ما هي علاقة المذهب البروتستانتي بإقامة دولة لليهود في فلسطين؟.. التساؤل يجيب عليه الدكتور يوسف العاصي الطويل في كتابه «البعد الديني لعلاقة أمريكا باليهود وإسرائيل وأثره على القضية الفلسطينية خلال الفترة 1948 – 2009».
تغيرات لاهوتية
عندما ظهر المذهب البروتستانتي في أوروبا على يد مارتن لوثر في القرن السادس عشر، قلب الأمور رأساً على عقب من خلال التغيرات اللاهوتية التي جاء بها، والتي روجت لفكرة أن اليهود أمة مفضلة، بل وأكدت على ضرورة عودتهم على فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر وبزوغ فجر العصر الألفي السعيد.
كان من أهم الأسباب التي أدت إلى حدوث هذه التغيرات، هو ما دعا إليه لوثر من وجوب إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون الخضوع لفهم رجال الدين لها.
لذا أصبح كل بروتستانتي حر في دراسة الكتاب المقدس وتفسيره واستنتاج معنى النصوص بشكل فردي، مع عدم الاعتراف بأن فهمه وقفاً على رجال الكنيسة وحدهم.
في ظل هذا المذهب ازداد الاهتمام بالعهد القديم (كتاب اليهود) تحت شعار العودة إلى الكتاب المقدس باعتباره مصدر العقيدة النقية، مع عدم الاعتراف بالإلهامات والتعاليم غير المكتوبة التي يتناقلها الباباوات الواحد عن الآخر، والتي تعتبر مصدراً مهماً من مصادر العقيدة المسيحية.
في هذا الوضع الجديد أصبح العهد القديم مصدراً مهماً للمعلومات التاريخية عند العامة، إذ اقتصر تاريخ فلسطين على القصص المتعلقة بالوجود اليهودي فيها دون غيرها، وأصبحت التوراة المصدر الأساسي الذي يرجع إليه الباحثون الأمريكيون في تدوين تاريخ فلسطين القديم ودور اليهود فيه.
وبذلك أصبح البروتستانت مهيئين للاعتقاد بأنه لم يكن في فلسطين إلا الأساطير والقصص التاريخية الواردة في التوراة، وكأنه لا وجود للشعوب الأخرى التي عاشت في فلسطين. وهكذا رسخت في أذهانهم فكرة الرابطة الأبدية بين اليهود وفلسطين باعتبارها وطنهم القومي الذين أخرجوا منه، والذي يجب أن يعودوا إليه طبقاً للنبوءات الواردة في العهد القديم.
العقيدة الألفية
من بطن حركة لوثر الإصلاحية وتفسيراتها خرجت عقائد عبرت عن المدى الذي وصلت إليه عملية تهويد المسيحية من بينها العقيدة الألفية، والتي تعود في جذورها إلى اليهودية، لكن البروتستانتية أحيتها وجعلتها فكرة مركزية في عقيدتها، وتدور حول عودة المسيح المخلص الذي سيحكم العالم لمدة ألف عام، حيث يسود خلالها السلام والعدل في مجتمع الإنسان والحيوان.
وهكذا يمكن تقدير الخدمة التي قدمها لوثر لليهود حيث أعاد بعثهم من جديد وأكد على وجوب عودتهم إلى أرض فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر.
هذه الأفكار التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني مهدت الطريق أمام نفس الأفكار التي نادت بها الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر من خلال تأكيدها على وجود الأمة اليهودية وضرورة بعثها من جديد واعتبار فلسطين وطناً لليهود، وأن عودتهم إليها ضرورة لاهوتية كمقدمة لعودة المسيح وبزوغ العصر الألفي السعيد.
وفي كتابه «دراسة فى العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل» يذكر يوسف الحمد أن معظم المهاجرين الجدد لأمريكا كانوا من البروتستانت الذين فروا من الاضطهاد الديني الذي ساد أوروبا في ذلك الوقت، وكانوا ينظرون إلى أنفسهم من منطلق خاص بهم، وذلك انطلاقاً من تراثهم الديني المستمد من العهد القديم.
وشرح الحمد أن المستوطنين ربطوا بين تجاربهم التي مروا بها منذ رحيلهم من أوروبا وإنجلترا بالذات، وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين، واعتبروا أمريكا هي أورشليم الجديدة أو كنعان الجديدة، وشبهوا أنفسهم بالعبرانيين القدماء.
وأدى انتشار الأفكار المتعلقة ببعث الأمة اليهودية بين معتنقي المذهب البروتستانتي إلى سعي الكثيرين منهم لتحقيقها طبقاً للنبوءات الواردة في كتب اليهود عبر عدة محاولات لتوطين اليهود في فلسطين.
نفوذ اقتصادي وسياسي
ولم يكن لهذا الدعم البروتستانتي لليهود وإسرائيل أن يستمر لولا نفوذ أصحاب هذا المذهب داخل المجتمع الأمريكي، فالبروتستانت يمثلون 48.9% من عدد سكان الولايات المتحدة مقابل 23% للكاثوليك بينما توزع النسب الباقية على الديانات والمعتقدات الأخرى وذلك وفقاً لتقرير نشرته مؤسسة «جالوب».
وقد ازداد نفوذ البروتستانت في الولايات المتحدة في العقود الأخيرة، ويكفي أنهم استطاعوا منذ سبعينات القرن الماضي السيطرة على الحزب الجمهوري وكانوا مسؤولين عن تحديد رئيس الجمهورية منذ جيمي كارتر عام 1976، حتى جورج بوش الابن سنة 2000.
كما أن 63% و60% كل من الأسقفيين والمشيخيين (من روافد البروتستانت) على التوالي يحصلون على دخل مالي بأكثر من 100 ألف دولار سنويًا. كما أن 12% من الأسر الأسقفية لديها ما يزيد على مليون دولار في القيمة الصافية ما منحهم نفوذاً كبيراً في عالم الاقتصاد والسياسية.
وخلصت دراسة أجرتها مجلة «فورتشن» أنّ واحداً من كل خمسة أكبر الشركات في الولايات المتحدة تُدار من قبل الأسقفيين. كما أن واحدة من ثلاثة أكبر وأقوى البنوك في البلاد، يرأسُه أسقفيين.
وتاريخيًا انتمت العديد من العائلات الأمريكية الثرية والغنية الشهيرة مثل عائلة روكفلر، مورجان، فورد، روزفلت، فاندربيلت، كارنجي، دو بونت، آستور، فوربس وعائلة بوش إلى كنائس البروتستانتية.
وكان الأغلبيّة العظمى من قضاة المحكمة العليا للولايات المتحدة من البروتستانت، فمن بين 112 قاضياً ترأس المحكمة العليا للولايات المتحدة كان منهم 91 بروتستانتي؛ ومن بين القضاة البروتستانت كان خمسة وثلاثين أسقفياً وتسعة عشر مشيخياً وعشرة توحيديين وخمسة ميثوديين وثلاثة معمدانيين وكلهم ينحدرون من المذهب البروتستانتي.