شعر السجون.. قصائد الأمل تتحدى الظلم والحبس
شعر السجون هو واحد من المواضيع المميزة للأدب العربي في العصور القديمة. رغم المصير المؤلم والحزن والشكوى، لم تخلُ هذه الأشعار من نبرة أمل وتفاؤل تحاول تبديد المحنة.
وممن قالوا شعرا بارعا في السجون الملوك والأمراء الذين صاروا أسرى بعد ملكهم وعزهم.
شعر السجون في العصر العباسي
-
علي بن الجهم
عندما وقف الشاعر علي بن الجهم أمام الخليفة العباسي المتوكل، ووصفه في أبيات بالكلب وبالتيس، لم يغضب الخليفة بل أعجب بالشاعر وأهداه بيتا بحديقة تطل على النهر.
أنت كالكلب في حفظك للود.. وكالتيس في صراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا.. من كبار الدِلا كبير الذنوب
عرف الخليفة أن ابن الجهم يمدحه بالأخلاق الكريمة كما هي العادة في بيئته البدوية، فالكلب عندهم هو رمز للوفاء والمحبة، والتيس رمز للقوة والبأس، والدلو رمز للعطاء والخير!
ومن هذه اللحظة حدث تحول في شعر ابن الجهم، فأصبحت كلماته أكثر رقة وعذوبة خصوصا في شعر الغزل وأصبح الشاعر المقرب للخليفة.
ولم يستمر الأمر كثيرا، فشعراء القصر الآخرين وشوا به عند المتوكل وقالوا إنه يغازل نساء القصر، فسجن الشاعر.
وفي سجنه قال قصائد يعبر فيها عن صبره على هذه المحنة فيقول:
قالوا: حُبست، فقلت ليس بضائري .. حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما ترى الليث يألف غيله – كبرا وأوباش السباع تردد؟
والبدر يدركه السرار فتنجلي .. أيامه وكأنه متجدد
والنار في أحجارها مخبوءة .. لا تصطلي ما لم تُثرها الأزند
ولكل حال معقب ولربما .. أجلى لك المكروه عمّا تحمد
فهو يشبه نفسه في السجن بالسيف الذي لابد أن يوضع في الغمد، والبدر الذي يظلم ثم يتجدد، ويقول إن الأيام قد تأتي لك بشر في داخله الكثير من الخير.
-
المتنبي
من الكوفة خرج الشاب أحمد بن الحسين المتنبي متجها لقبيلة ليقود ثورة سياسية.
عاش المتنبي في زمن ضعف فيه الخلفاء العباسيون وبدأت عناصر أجنبية فارسية وكردية بالتحكم في الخلافة، وكانت مهمته التي كلفته بها قبيلة «بني كلب» التي تعلم منهم الفصاحة والساسية معا- هي أن يقود ثورة على الحكام هدفها إعلان سيادة العرب؛ فالمتنبي هو واحد من المؤمنين بتميز جنس العرب على باقي الأجناس الأخرى.
ذاع صيت المتنبي سياسيا، كما ذاع شعره، ولكن لسوء حظه كانت النتيجة هي وضعه في السجن.
ومن الأبيات التي قالها في سجنه، وفقا لدراسة بعنوان «الصورة البيانية عند شعراء السجون في العصر العباسي».
أهون بطول الثواء والتلف .. والسجن والقيد يا أبا دُلف
غير اختيار قبلت برّك بي .. والجوع يرضي الأسود بالجيف
كن أيها السجن حيث شئت فقد.. وطنت للموت نفس معترف
لو كان سكناي فيك منقصة.. لم يكن الدر ساكن الصدف
لا يريد المتنبي الاعتراف بأن السجن نقص في حقه، فهو كالأسد الذي وإن اضطر لأكل «الجيف» فسيظل شامخا.
خرج الشاعر من السجن بعد الكثير من الأذى الجسدي والنفسي، فقد روّج معارضوه تهمة ادعاءه النبوة ليبرووا سجنه؛ وبدلا من الثورة بدأ يطوف على الحكام العرب ويوطد علاقته بهم ويمدحهم عله ينال المنصب الذي يرجوه.
شعر المتنبي.. قصائد خالدة في الحب والنصح
-
روميات أبو فراس الحمداني
في بلاط أمير حلب، سيف الدولة الحمداني، تقابل أبو فراس مع المتنبي، وكان الأول شاعرًا وفارسا ذو طموحِِ عالِِ فهو ابن عمم الأمير الذي رباه بعد وفاة والده، وكان الثاني شاعر البلاط المفضل الذي يخوض الحروب ويطمح لمنصب سياسي.
وخلال إحدى الحروب مع الدولة البيزنطية، وفي وقت تقسّمت فيه الخلافة إلى دويلات صغيرة تحاول كل واحدة توسيع رقعتها، وقع أبو فراس في الأسر لمدة أربع سنوات كاملة.
ولم يفعل سيف الدولة شيئا لافتداء ابن عمه، خوفا من أن ينقلب على الحكم؛ خصوصا أن سيف الدولة كان ضعيفا في أواخر أيامه.
وفي سجن «الروميات» كانت معاناة أبو فراس شديدة، فهو ينتقل فجأة من حياة الفرسان والأمراء إلى أسير ذليل يخذله أقرب المقربون إليه.
وفي هذا السجن كتب قصيدته الشهيرة «أراك عصي الدمع» الذي يمزج فيها بين الغزل وتنكر حبيبته له بعد الحبس:
تسائلني من أنت وهي عليمة.. وهي بفتى مثلي على حاله نكر
قالت: لقد أذرى بك الدهر بعدنا.. قلت معاذ الله بل أنت لا الدهر
وكان للأحزان مسلك إلي.. ولكن الهوى للبلى جسر
معاناة أبو فراس امتزجت باعتزازه بنفسه، فهو يكتب الشعر الذي يفخر فيه بفروسيته التي تحتم عليه أن يكون صبورا وواثقا من الفرج القريب. وفي أفضل أشعاره يصف صعوبة السجن ومرارة الخذلان من أقرب المقربين إليه:
مصابي جليل والعــزاء جميل .. وظني بأن الله سوف يزيل
جراح تحاماها الأساة مخــافة .. وسقمان باد منهما ودخيـل
وأسرٌ أُقاسيه وليــل نجومـه .. أرى كلّ شيء غيرهن يزول
تطول بِي الساعات وهي قصيرة .. وفي كل دهر لا يسرّك طول
وبعد سنوات في السجن قرر سيف الدولة افتداء ابن عمه بالمال، ثم توفي بعدها بسنوات قليلة.
شعر السجون في الأندلس
-
المعتمد بن عباد الملك الأسير
بعد حياة الملوك وقع المعتمد بن عباد في الأسر، فهو حاكم قرطبة وإشبيلية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس.
ابن عباد كان معروفا بحبه وتشجيعه للشعراء والأدباء وكان أيضا من أقوى ملوك الطوائف فقد وسع ملكه واستولى على إمارات عديدة في الأندلس، وخاض حروبا مع أمراء الممالك المسيحية الذين حاولوا السيطرة على الأندلس.
وخلال تلك الحروب استعان بملك المغرب يوسف بن تاشفين؛ لكنه انقلب عليه واستولى على حكم الأندلس بالكامل بعدما رأى انقساما بين ملوك الطوائف.
ففي عصر ملوك الطوائف انقسمت الأندلس إلى إمارات صغيرة، لكل إمارة حاكم مستقل بذاته، و كثرت فيه الخصومات والوشايات السياسية، فكل أمير يرد أن يوقع بالآخر ليستولي على مدينته.
يقول وهو يشكو حال بناته اللاتي لا يجدن الطعام بعد حياة الملك وفقا لدراسة بعنوان «شعر السجون في الأندلس»:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا.. فساءك العيد في أغمات مسرورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة.. يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
يطأن في الطين والأقدام حافية .. كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
ويقول في الصبر وانتظار الفرج:
اقنع بحظم في دنياك ما كانا.. وعز نفسك إن فارق أوطانا
في الله من كل مفقود مضى عوض .. فأشعر النفس سلوانا وإيمانا
أكلما سنحت ذكرى طربت لها.. مجّت دموعك في خديك طوفانا
أكلما سمعت بسلطان شبيهك قد.. بزّته سود خطوب الدهر سلطانا
وطّن على الكره وارقب إثره فرجا.. واستغفر الله تغنم منه غفرانا
-
ابن زيدون الوزير المسجون
وفي الأندلس كان الشاعر ابن زيدون وزيرا لقرطبة وسفيرا بين ملوك الطوائف، وشارك في الثورة ضد حكم الأمويين بالأندلس، وخاض صراعات سياسية كبيرة انتهت بسجنه.
ووسط صراعات ملوك الطوائف وقع ابن زيدون في الحبس، فقد حاول المظفر حاكم مدينة بطليوس استمالته ليعينه وزيرا، في الوقت الذي كان فيه الشاعر وزيرا مقربا للحزم بن جهور بقرطبة.
ولأن ابن زيدون كان فخورا ومعتدا بنفسه ولا يتورع عن انتقاد ابن جهور، أصبح من السهل على الوشاة الوقيعة بينهما.
في سجنه كتب الشاعر قصائد في الحزن والفراق، كما كتب قصائدًا يتحدث فيها عن الصبر والأمل بانتهاء الأزمة.
لا يهنئ الشامت المرتاح خاطره ... أني معنى الأماني ضائع الخطر
هل الرياح ينجم الأرض عاصفة ... أم الكسوف لغير الشمس والقمر
إن طال في السجن إيداعي فلا عجب ... قد يودع الجفن حد الصارم الذِكر
قد كنت أحسبني والنجم في قرن ... ففيم أصبحت منحطا إلى القمر
فابن زيدون يفخر بنفسه ويشببها في سجنها بالرياح التي تهدأ وتثور والشمس التي تشرق بعد الكسوف.