خالد محيي الدين.. الضابط الذي خلع جلباب جده وبايع الإخوان وانضم للشيوعية
قبل انضمامه إلى تنظيم الضباط الأحرار كان خالد محيي الدين دائم البحث عن طريق يسلك من خلاله النضال الوطني على أمل التحرر من الاحتلال الإنجليزي. ورغم نشأته في بيت صوفي حيث كان جده لأمه شيخاً للطريقة النقشبندية إلا أن هذا البحث قاده للانخراط هو وجمال عبد الناصر في جماعة الإخوان المسلمين ومبايعة مرشدها العام حسن البنا ثم تركها لينضم إلى منظمة شيوعية.
تفاصيل انضمام «محيي الدين» إلى جماعة الإخوان ثم إلى المنظمة الشيوعية جاءت على لسانه في مذكراته التي حملت عنوان «الآن أتكلم».
اللقاء الأول
كنا في نهاية عام 1944، وكانت الحيرة تغلفنا جميعاً بحثاً عن طريق لنا ولمصر. وذات يوم مر علىّ عبدالمنعم عبدالرؤوف (أحد ضباط الجيش) وعرض علىّ أن نلتقي بضابط آخر يحمل ذات الهموم ويبحث عن إجابات لذات الأسئلة، وأخذني لأقابل جمال عبد الناصر.
لكن «عبدالرؤوف» ما لبث أن طلب مني أن يعرفني بضابط آخر. أخذني إلى جزيرة الشاي بحديقة الحيوان، وقابلت الصاغ محمود لبيب الذي عرفت فيما بعد أنه مسئول الجناح العسكري في الإخوان المسلمين.
ذهبت في لقائي الأول ومعي عثمان فوزي، وبدأ «لبيب» يتكلم في هدوء ويتطرق إلى موضوع الدين دون تعجل. كان يعرف أن محركنا الأساسي هو القضية الوطنية فظل يتحدث عن هذا الموضوع ولكن بنكهة إسلامية، وكنت ألح في استخراج إجابات محددة عن أسئلة شغلت بالي طويلاً، حول الوطن وكيف سنحرره وبأية وسيلة؟ وما هو الموقف من المفاوضات مع الإنجليز؟ وكان يجيب في حذر وذكاء، لم يكن يريد أن يخسرني بإلقاء الإجابات التقليدية للإخوان.
اشتم عثمان فوزي رائحة الإخوان من الحديث، وصمم على عدم حضور أية مقابلة مرة أخرى، وواصلت أنا مقابلاتي مع «لبيب» وفي مرة تالية حضر «عبدالناصر»، فعبد المنعم عبدالرؤوف قابلني بجمال ثم قابل كل منا على انفراد بمحمود لبيب.
مجموعة عسكرية
وبدأت علاقة من نوع غريب مع جماعة الإخوان، وتكونت مجموعة عسكرية تضم العديد من الضباط، ولم نعد نلتقي في أماكن عامة وإنما بدأنا نعقد اجتماعات منتظمة في البيوت.
كنا نجتمع في بيت مجدي حسنين وأحياناً في بيت الضابط أحمد مظهر (الفنان أحمد مظهر)، وفي هذه اللقاءات الإخوانية كان يحضر معنا جمال عبدالناصر وكمال الدين حسين وحسين حموده وحسين الشافعي وسعد توفيق وصلاح خليفة وعبداللطيف بغدادي وحسن إبراهيم.
كانت علاقة الإخوان بهذه المجموعة تتسم بالحساسية، وجد الإخوان أنفسهم أمام كنز من الضباط المستعدين لعمل أي شيء من أجل الوطن.
لكن هؤلاء الضباط لم يكونوا على ذات الدرجة من الولاء للجماعة، فمثلا صلاح خليفة وحسين حموده كانا من الإخوان قلباً وقالباً، أما الآخرون فكانوا مجرد عناصر تبحث عن طريق. فعبد الناصر مثلا كان يعتقد أن الإخوان يريدون استغلالنا كضباط لنكون أداة في أيديهم ونعطيهم مكانة سياسية بوجود نفوذ لهم في الجيش لكنهم لن يقدموا شيئاً للوطنية، وكان جمال يلح في الاجتماعات: إذا كان لديكم نصف مليون عضو وأربعة آلاف شعبة فلماذا لا نبدأ بعمليات ضرب ضد الاحتلال، ومظاهرات وتحركات جماهيرية؟.
الجهاز السري
كنت ألقي أسئلة كثيرة على محمود لبيب عن تحرير الوطن ومالذي يمكن تقديمه للشعب إلا أنه كان يتهرب من الإجابة. انتهى الأمر بأن أحضر لنا حسن البنا المرشد العام للإخوان الذي كان يمتلك مقدرة فذة على الإقناع وعلى التسلل إلى نفوس مستمعيه، وأفهمنا أن الجماعة تعاملنا معامة خاصة ولا تطلب منا نفس الولاء الكامل الذي تطلبه من العضو العادي.
تتالت مقابلاتنا مع «البنا» الذي حاول أن يشدنا إلى الجماعة برباط وثيق، وقرر ضمي وعبدالناصر إلى الجهاز السري للجماعة، ربما لأننا الأكثر فعالية وتأثيراً في المجموعة ومن ثم فإن كسبنا بشكل نهائي يعني كسب المجموعة بأكملها، وربما لأننا كنا نتحدث كثيراً عن الوطن والقضية الوطنية، ومن ثم فقد تصور أن ضمنا للجهاز حيث التدريب على السلاح والعمل المسلح يمكنه أن يرضي اندفاعنا الوطني، ويكفل ارتباطاً وثيقاً بالجماعة.
البيعة للمرشد
اتصل بنا صلاح خليفة وأخذنا أنا وجمال عبدالناصر إلى بيت قديم في حي الدرب الأحمر، وهناك قابلنا عبدالرحمن السندي المسئول الأول للجهاز السري للإخوان في ذلك الوقت، وأدخلونا إلى غرفة مظلمة تماماً واستمعنا إلى صوت أعتقد أنه صوت صالح عشماوي، ووضعنا يدنا على مصحف ومسدس، ورددنا خلف هذا الصوت يمين الطاعة للمرشد العام في المنشط والمكره (الخير والشر) وأعلنا بيعتنا التامة الكاملة والشاملة له على كتاب الله وسنة رسوله.
وبرغم هذه الطقوس المفترض فيها أن تهز المشاعر، فإنها لم تترك إلا أثراً محدوداً سواء في نفس عبدالناصر أو نفسي.
على أية حال، بدأنا عملنا في الجهاز السري. أخذونا للتدريب في منطقة قريبة من حلوان، وطبعاً كنا تفهم في السلاح أكثر ممن يدربوننا، وكان عبدالناصر يبدو ممتعضاً من ذلك، وبدأنا نستشعر حالة من الاغتراب عن الجماعة.
كانت الأحداث السياسية تتسارع، وكشفت جماعة الإخوان عن وجهها السياسي، وتصرفت كجماعة سياسية لا دعوية. لما كانت بحاجة إلى صحيفة وورق صحف في ظل أزمة شديدة في الورق تقاربت من إسماعيل صدقي رئيس الوزراء آنذاك، وحصلت في مقابل تقاربها على ما أرادت.
كذلك وقفت الجماعة ضد اللجنة الوطنية للطلبة والعمال، وحاولت أن تشكل جماعة أخرى بالتعاون مع إسماعيل صدقي، واتفقت مع جمال على أننا تورطنا أكثر مما يجب مع هذه الجماعة، وأنه يجب أن ننسحب منها.
منظمة شيوعية
في تلك الفترة كنت أقرأ كتباً عن الإشتراكية والماركسية أهداهم لي صديقي عثمان فوزي، وفي يناير أو فبراير 1947 قابلني صديق هو أحمد فؤاد وكان وكيل نيابة، وكنا معاً في نادي القاهرة النهري حيث كنت أمارس رياضة التجديف، وكنت أعرف أنه شيوعي وحضر المقابلة على الشلقاني المحامي وتحدثا مباشرة ودون لف أو دوران وعرضا علىّ الدخول في منظمة «ايسكرا» الشيوعية.
لم أمانع في الانضمام حيث كنت لا أزل أبحث عن طريق لي يقودني كي أضع نفسي في خدمة مصر. حضرت اجتماعاً لخلية شيوعية في منزل في حي السكاكيني، وكانوا مجموعة من الشباب ليس فيهم أي عسكريين.
كان من بينهم موظفاً اسمه «الصحن» لم يستطع أن يكتسب لا ثقتي ولا رغبتي في مواصلة الالتقاء معه. كانت الماركسية مشوشة في رأسه بصوة غير عادية واختلطت في ذهنه بأشياء عديدة منها الإلحاد مثلاً.
ولعل «ايسكرا» لم تكن موفقة إذ نظمتني وأنا ضابط فرسان في خلية مسئولها باشكاتب في سلاح الفرسان في الشئون الإدارية، وهكذا تكاتفت أشياء عدة لتمنع مسيرتي مع هذه المنظمة من التواصل.
الوفاة
توفي الضابط السابق بالجيش وأحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار الذي قاد ثورة يوليو 1952 صباح يوم 6 مايو 2018 عن 95 عاما بعد إصابته بأمراض الشيخوخة.