ما لا تعرفه عن بناء القاهرة ودور المنجّمين في تسميتها
وراء كل حجر في القاهرة القديمة حكايات تروي كيف تأسست هذه المدينة، وكيف خاض أهلها معاركهم ضد الغزاة والطامعين، وكيف مرت الأحداث من خلالها وغيرت مجرى التاريخ في العالم كله. في كتابه «القاهرة. خططها وتطورها العمراني» يروي الدكتور أيمن فؤاد سيد قصة التأسيس والتسمية.
حُلم الفاطميين
بعد أن أتم جوهر الصقلي، قائد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، فتح مصر سنة 969، اتجه لتنفيذ تعليمات الخليفة له بأن يؤسس في مصر مدينة ملكية وعاصمة للدولة العالمية الشاملة التي حلم بها الفاطميون لتضم جميع الأراضي الإسلامية.
وفي الليلة نفسها التي عبر فيها جوهر الصقلي بقواته من الجيزة إلى الفسطاط غرب النيل، أنزل جنوده عند بركة الفيل بالقرب من جامع أحمد بن طولون، ووقع اختياره على السهل الرملي الذي يحده خليج أمير المؤمنين (كان فرعاً يمتد من النيل ويصب في البحر الأحمر) من الغرب، وجبل المقطم من الشرق ليضع فيه أساس المدينة الجديدة.
اختار «الصقلي» هذا الموضع تحديداً ليبني فيه المدينة الجديدة لعدد من الأسباب، أهمها أن بناء مدينة جديدة لا يتم بالطبع في يوم وليلة، بل لابد وأن يستغرق عدة سنوات، وكان يجب أن يوفر خلالها مكان يُعسكر فيه الجيش الفاتح ويستقر فيه مؤقتاً، ويضمن له في التوقيت نفسه توفير احتياجاته اليومية، والقيام بتدريباته العسكرية الدورية. وكان الموضع الذي نزلت فيه الجيوش الفاطمية مناسباً لذلك تماماً.
أصل التسمية
اختلف المؤرخون في أصل تسمية القاهرة، وصاغوا في ذلك كثير من الروايات منها رواية المنجّمين والتي دارت حول إطلاق اسم كوكب المشترى، وهو القاهر على المدينة، وهذا احتمال مستبعد.
والحقيقة أن العباسيين جمعوا المنجمين عند تأسيس بغداد لاختيار طالع مناسب لبدء وضع أساس المدينة، إلا أن الفاطميين مع مالهم من إيمان ومعرفة بعلم النجامة والفلك لم يتبعوا هذا التقليد عندما أسسوا مدينتي المهدية والمنصورية، وبالتالي لا يُرجح أنهم فعلوا ذلك أيضاً أثناء تأسيس القاهرة.
تبقى روايتان تُكمل كل منهما الأخرى. فـ«المعز» عندما خرج لوداع جوهر الصقلي وهو في طريقه لفتح مصر، التفت إلى المشائخ المصاحبين له، وقال: «والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر وليدخلن إلى مصر بالأردية (بدون مقاومة) من غير حرب، ولينزلن في خرابات ابن طولون ويبني مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا». فهذا توجيه واضح من الخليفة إلى قائده عيّن له فيه الاسم الذي أراد أن يطلقه على عاصمة خلافته في مصر.
وظن «الصقلي» بعد أن أتم بناء القصر الفاطمي الكبير والجامع وأدار عليهما السور، أنه يتقرب إلى مولاه لو أطلق على المدينة الجديدة اسم «المنصورية» تشبهاً بعاصمة الفاطميين التي أسسها «المنصور» والد «المعز».
وعندما وصل الخليفة المعز إلى مصر في آخر سنة 973 كان متلهفاً إلى رؤية عاصمته الجديدة والقصر الذي أعد لسكناه، فلم يدخل «المعز» الفسطاط التي زُينت له واستعدت لاستقباله، بل عبر النيل من الجيزة مباشرة إلى حيث موضع القاهرة ودخل إليها من باب زويلة الأيمن وتوجه مباشرة إلى حيث القصر الخلافي فخر ساجداً وصلى مع مرافقيه ركعتين شكراً لله.
ولما استفسر من قائده عن اسم المدينة الذي أطلقه عليها لم يرقه تصرفه وإطلاقه اسم «المنصورية» عليها، فغير اسمها إلى «القاهرة» كما أراد اعتقاداً منه بأن هذا الاسم سيكون فألاً حسناً وأنها ستقهر الدنيا ويُحكم منها العالم الإسلامي.
موضع العاصمة
لم يكتف «المعز» بتغيير اسم المدينة بل إنه لم يعجبه موضعها نفسه وعتب على قائده أنه لم يبن «القاهرة» على ساحل النيل في موضع المقس (ميدان رمسيس الآن)، أو في منطقة جنوب الفسطاط (إسطبل عنتر الآن) لتكون من هذا الموقع قلعة لمصر.
والمعز كان مُحقاً في بعض ما ذهب إليه، فطبيعة أرض القاهرة حتى اليوم ترابية سبخة، فجبل المقطم يردمها دائماً بالتراب، مما يجعل جوها كدراً بما تثيره أرجل السيارة والدواب من تراب، ويجعل التدهور يزحف إلى مبانيها.
كما أنها عرضة لأن تغرقها المياه المنحدرة من تلال المقطم، وهو الأمر الذي دفع الخليفة الحاكم بأمر الله في نهاية القرن العاشر الميلادي إلى أن يأمر الناس بإلقاء أتربة القاهرة وما يخرج من بيوتها خلف سور المدينة الشرقي لتمنع السيول – إذا أتت – من دخول المدينة. فتكوّن من هذه الأزبال الكيمان (أسمدة طبيعية) التي عُرفت بكيمان البرقية، وقد ظلت هذه الجهة خالية من العمارة طوال حكم الدولة الفاطمية لهذا السبب.