حررت الأسرى وخطبت في الناس وتأكل الفستق واللوز.. حكاية العنزة المباركة
سيطرت على المجتمع المصري خلال العصرين المملوكي والعثماني خرافات وأساطير كانت ينسجها بعض الخبثاء والنصابين، مستغلين سذاجة الناس وضحالة وعيهم، ومستهدفين من وراء ذلك ما في جيوب البسطاء.
وقد استيقظت القاهرة ذات صباح على قصة خرافية تزعم أن عنزة صعدت فوق مئذنة مسجد السيدة نفيسة، وأخذت تكلم الناس وتحضهم على فعل الخيرات، وتحذرهم من ارتكاب الموبقات.
وبحسب ما روى جمال بدوي في كتابه «مصر من نافذة التاريخ» تطورت القصة، بعد أن تناقلها الناس فأضافوا إليها بعض التوابل والمشهيات، واكتملت لها عناصر الإثارة والتشويق، واستقرت القصة في الشارع المصري على النحو التالي كما رواها المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي.
تحرير الأسرى
يروي الجبرتي أن بعض الجند المصريين وقعوا أسرى للحرب في بلاد الفرنجة، وذات يوم اشتروا عنزة ليذبحوها في مجلس الذكر الذي عقدوه قرباناً إلى الله كي يفك أسرهم ويعيدهم إلى ديارهم، ولكن الحارس القائم على أمرهم أبى عليهم ذلك واستولى على العنزة ومضى بها إلى بيته.
وعندما آوى الحارس إلى فراشه، رأى في منامه رؤيا مزعجة، فأدرك على الفور أن العنزة مباركة، فلما أشرق الصباح، أعاد العنزة إلى الجند ثم أطلق سراحهم، وزودهم ببعض المال كي يستعينوا به على الرحيل إلى بلادهم، فاستقلوا مركباً إلى مصر، ومعهم العنزة المباركة.
فلما بلغوا القاهرة، ذهبوا من فورهم إلى مسجد السيدة نفيسة وقضوا ليلتهم بجوار ضريحها، وفي الصباح وجدوا العنزة قد اعتلت المنارة، وسمعوها تكلم الناس.
التبرك بالعنزة
وكان للمسجد خادم ذكي اسمه الشيخ عبداللطيف، والذي أدرك الفائدة العظمى التي ستعود عليه من ترويج قصة العنزة، فأشاع بين رواد المسجد أن السيدة نفيسة خاطبته من مقصورتها وأوصته بالعنزة خيراً.
وذاعت الخرافة بين أهل القاهرة، فتوافدوا على المسجد لرؤية العنزة والتبرك بها، والتبرع لها بما تجود به أريحيتهم، وانفتح باب الرزق الواسع أمام الشيخ عبداللطيف، فوضع تسعيرة محددة لكل درجة من درجات القرب من العنزة أدناها الرؤية المجردة، وأعلاها المسح على جسمها والحصول على بركاتها.
وانهالت الهدايا والنذور على الشيخ عبداللطيف، فكان يخبرهم بأن العنزة لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق، ولا تشرب إلا ماء الورد المحلى بالسكر المكرر، فيحمل الناس إليه أطناناً من هذا وذاك، حتى تكدست لديه أكوام من أطايب الطعام والشراب.
وبلغت القصة مسامع الأميرات وزوجات الكبراء والقادة، فكن يتسابقن إلى صنع القلائد الذهبية والأقراط والأساور ويبعثن بها إلى الشيخ عبد اللطيف، ليزين بها جسد العنزة المباركة.
قصر الأمير
وكان الأمير عبدالرحمن في عصر علي بك الكبير من أشد الأمراء حزماً وحسماً، وأكثرهم وعياً ورفضاً لهذه الخزعبلات، فأرسل إلى الشيخ عبد اللطيف يرجوه أن يتعطف بزيارته في قصره وبصحبته العنزة، حتى يتمكن أهل بيته من رؤيتها والتماس البركة منها.
سعد الشيخ بهذه الدعوة التي ستفتح أمامه قصور الأمراء والكبراء، وحدد يوماً لهذه الرحلة الميمونة، فتجمع أرباب الطرق الصوفية في موكب مهيب لمصاحبته من مسجد السيدة نفيسة إلى قصر الأمير المجاور لمسجد أحمد بن طولون.
بلغ الموكب باب القصر، فنهض الأمير هو وضيوفه من العظماء والوجهاء لاستقبال العنزة المباركة، واستأذن الأمير في أن تمضي العنزة إلى جناح الحريم فرحب الشيخ عبد اللطيف، وأعطاه العنزة فحملها الخدم على المطبخ حيث انهالت عليها سكين الجزار، فذبحتها وسلختها وتسابق الطباخون إلى سلقها وتحميرها، بينما اتخذ الشيخ عبد اللطيف مكانه في صدر المجلس يروي للأمراء مزيداً من الخرافات عن كرامات العنزة.
وحان موعد الغذاء، فأمر الأمير ببدء الوليمة، فدخل الخدم يحملون أطباق الفتة تعلوها قطع اللحم الشهي، وانهالت أيدي الأمير وضيوفه تنهش أطايب اللحم، وبين الحين والحين كان الأمير يحث الشيخ على تناول المزيد من اللحم، والأمراء من حوله يتغامزون، ويكتمون ضحكاتهم، حتى فرغوا من الطعام وشرب القهوة، فنهض الشيخ عبد اللطيف مستأذناً في الانصراف ومعه العنزة، فقال له الأمير عبد الرحمن: أي عنزة تقصد؟ فقال خادم المسجد: العنزة المباركة التي دخلت جناح الحريم، فقال الأمير: العنزة لم تدخل جناح الحريم مطلقاً، ولكنها دخلت بطنك يا كاذب، يا فاجر، يا أفاق، وهذا دليل على ضلالك المبين.
ارتعب الرجل من هول المفاجأة التي وقعت على رأسه كالصاعقة، وحاول الإفلات بجلده، ولكن الأمير أمسك به وأمر مماليكه بضربه ستين عصا على رجليه، ثم جاء بجلد العنزة فطرحه على عمامته، وطاف به الجند شوارع القاهرة ليكون عبرة لغيره من الذين يحتالون على الناس بالأساطير التي تستغل عواطفهم الدينية.