«قُشتُمر» الرواية الأخيرة لنجيب محفوظ.. عن الوفاء لأصدقاء القهوة في الشدة والرخاء
في عام 1988، ختم نجيب محفوظ مسيرته الروائية بقصة قصيرة تحتوي على الكثير من الأدب والدروس الحياتية، ويحكي في أوراقها القليلة تاريخ مصر خلال 70 عامًا وملخص لحياة أغلب المصريين.
المقهى المحبب
كعادته يستغل نجيب محفوظ المكان ليكون أحد أبطاله، كما فعل مع شوارع القاهرة العتيقة «بين القصرين» و«قصر الشوق» وغيرهما، يسخدم مقهى «قشتمر» الحقيقي هذه المرة، لأنه المكان المفضل للحكايات والسمر عند أغلب المصريين.
تحكي القصة عن أربعة أصدقاء اجتمعوا منذ اللحظات الأولى في المدرسة، حين جمعهم حي العباسية القديم بما فيه من طبقات عديدة، فهناك السرايات الفخمة في الشرق وتقابله بيوت البسطاء في الغرب.
اعتاد الأصدقاء الأربعة اللقاء في مقهى «قشتمر» ليتسامروا في أمورهم الشخصية ويتناقشوا في شئون السياسة والمجتمع، فاشتملت أحداث الرواية على الجوانب الإنسانية والناحية التاريخية أيضًا.
الرفاق الأربعة
أبطال القصة الأربعة مختلفون في كل شيء تقريبًا، حتى يجد القارئ نفسه في واحد منهم، لقد افترقوا في المشوار والمواقف والأقدار بأشكال عديدة. وهم بترتيب التواجد في القصة:
صادق صفوان.. تاجر متدين
نموذج الشاب المتدين والمهذب، الذي لا يرهق نفسه بالتفكير الفلسفي وحل العقد، بل يطمئن قلبه ويصلي منذ طفولته، فقير لكنه يسعى للثراء والنجاح المادي بشكل مباشر، فلم يكمل دراسته وفتح متجرًا للخردوات.
ولأنه متدين بطبعه، لم يقبل العلاقات المؤقتة بلا زواج، فتزوج مباشرة بعد فتح متجره، وقضى حياته الزوجية سعيدًا إلى أن وجد تقصيرًا من زوجته، ليتزوج الثانية ومن بعدها الثالثة حتى صار عجوزًا ولديه ابنة صغيرة.
طاهر عبيد.. شاعر متمرد
من الطبقة الثرية بالعباسية، يمثل الشخص المتمرد على أسرته لتحقيق غايته، تحدى رغبة والده في تعليمه الطب ولم يهتم إلا بموهبة الشعر الذي يتقنه، وكتب أول قصائده عن صديقات أخته الجميلات في حديقة السرايا.
استقل طاهر عن الأسرة تمامًا بعدما طرده الأب، وعاش حياته كشاعر في بيت بسيط، كما تزوج دون الرجوع للعائلة مرة واثنين، إلا أن أمه رقت له واستقبلته في السرايا مجددًا بعد أن صار شاعرًا شهيرًا في عصر عبد الناصر.
إسماعيل قدري.. عبقري ثوري
عبقري الشلة الذي يفكر في كل شيء وأي شيء، فقير بسيط الحال لكنه يحب الزراعة وتشريح الكائنات، وحاول مرة أن يجرب الجراحة في يد خادمة صغيرة، غير أنه لم يدع فتاة إلا واقتادها إلى غابة التين الشوكي، فقد كان أكثر الأصحاب طاعة لنزواته.
سعى لدخول كلية الحقوق بكل قوته، لكنه اضطر للالتحاق بكلية الآداب بسبب مرض والده المفاجئ، ثم اعتقلته السلطات حين اشترك في مظاهرة سياسية وفدية.
ظلت حياته سلسلة من المشاكل، إلا أنه استطاع دراسة الحقوق من المنزل ونجح في هذا كما تزوج بامرأة ثرية تكبره قليلاً، وظل على عشقه لشهوة الجسد حتى بعد تجاوز الستين.
حمادة الحلواني.. صاحب كأس
الثري العابث الذي يعيش بلا هدف أو غاية، عشق القراءة مع الكيف والنساء، ولا يؤمن بدين معين أو فلسفة محددة، حتى عندما أعجبته فتاة وبادلته الإعجاب تردد وزهد في زواج سيجلب له المسؤوليات والمشاكل.
قرر في أواخر عمره أن يتزوج إحدى عشيقاته، لكنها ظلت بالنسبة إليه مجرد فتاة ليل وحسب، لذا دفع لها مبلغًا كبيرًا من المال وطلقها، وظل على حاله من العبث وتبذير أمواله وميراثه.
صداقة نادرة
مع كل هذا الاختلاف في العقول والأهواء، ظل الرفاق الأربعة على عهدهم من الوفاء والسند، كما جمع بينهم النسب حين تزوج ابن صادق صفوان من درية ابنة طاهر، فزادت الرابطة والحب.
حتى في آرائهم السياسية المحلية منها والعالمية، لم يتشاجروا مرة إلى درجة النزاع والانفصال، وكان مقهى «قشتمر» شاهدًا على هذه الصداقة كأنه واحد منهم، وشهدوا كل مراحل تجديده وتطويره.
الكلمات الأخيرة
بأسلوبه السهل الممتنع، وضع نجيب محفوظ خبرته كلها في هذه الرواية القصيرة، لتخرج بمثابة بانوراما لحياة الأبطال الأربعة، وكان مشهد النهاية جديرًا بخاتمة ملحمية من كلمات بسيطة.
الأصدقاء الأربعة تجاوزوا الثمانين، فيحتفلون بمرور 70 سنة على صداقتهم الفريدة، كل منهم ألقى كلمة من روحه لتعبر عن شعوره:
قال صادق صفوان المهذب المتدين «أقول وأنا أستعيذ بالله من الحسد والحاسدين، أن سبعين عاماً مرت فلم تند عن أحدنا هفوة تسئ إلى الوفاء من قريب أو بعيد، ألا فليدم هذا الصفاء وليكن مثَلاً للعالمين».
وقال طاهر عبيد الشاعر المرهف «أحقاً نحن نحتفل بمرور سبعين عامًا على صداقتنا؟، لقد مرت على بلادنا سبعون عاماً أما صداقتنا فلم يمر عليها سوى دقيقة واحدة».
أما إسماعيل قدري المحامي الثوري فقال «ينطوى التاريخ بما يحمل ويبقى الحب جديداً إلى الأبد».
وحمادة الحلواني العابث المثقف «لو جمعنا الضحكات التى روينا بها قلوبنا المنهكة بكؤوس الأحداث لملأت بحيرة من المياه العذبة الصافية».
هكذا انتهت قصة «قشتمر» لتترك رسالة في السبيل الوحيد للحياة بسلام في هذه الدنيا وهو الوفاء والعشرة، أما الفراق فهو أصعب الأمور التي قال عنها أحد الرفاق «سيكون أتعسنا من يمتد به العمر بعد رحيل الآخرين».
يمكنك قراءة الرواية من هنا