رحلة مع جلال أمين.. ماذا حدث للمصريين؟
ترك المفكر الاقتصادي الراحل جلال أمين «1935-2018» إرثا كبيرا على مستوى التحليل الاجتماعي يزين به المكتبة العربية، يستطيع من خلاله المصريون قراءة ما حدث لهم واستشراف ما ينتظرهم في المستقبل.
لفيلسوف الاقتصاد مجموعة كبيرة من الكتب، لكن يبقى كتابه «ماذا حدث للمصريين؟» علامة فارقة في تحليل الشخصية المصرية على مدار نصف قرن من الزمان، وهي الفترة من 1945 إلى 1995 التي رصد فيها الأكاديمي الراحل، ظواهر اجتماعية رسمت العلاقة بين الطبقات.
انقلاب الهرم الطبقي
يفرد أمين أجزاء كبيرة من كتابه في شرح سلوكيات الطبقة المتوسطة، التي ينتمي إليها، وخصوصا بعد الحراك الاجتماعي الذي رافق ثورة 1952، إذ يرى أن السياسات الاقتصادية والسياسية الكبرى مثل التصنيع والإصلاح الزراعي ثم الانفتاح والهجرة الخارجية والعولمة قلبت الهرم الطبقي في مصر رأسا على عقب، لأنها دفعت بفئات واسعة من الطبقات الفقيرة والمتوسطة المصرية إلى أعلى السلم الاجتماعي المصري بشكل سريع وغير مسبوق.
وفقا لأمين، فالمصريون تحولوا إلى فئات محظوظة اعتلت قمة الهرم الطبقي في زمن قياسي وبدون جهد يذكر وباتت مشغولة بالتعالي على من هم دونهم وإذلالهم، وفئات أقل حظا لم يسعفها الحظ للصعود الاجتماعي وباتت هي أيضا مشغولة بالصعود الاجتماعي وبكراهية من هم أفضل منها لأنهم لا يستحقون هذا الثراء.
الهجرة
«الشعب المصري شعب لا يهاجر بطبعه» مقولة سار وراها الأكاديمي البارز كي يثبت العكس، فرصد الهجرة الجماعية التي حدثت في منتصف السبعينيات، فكان أغلب المهاجرين من المهنيين كالمدرسين والأطباء، ولكن بعد 1974 زاد عدد المهاجرين من عمال البناء والحرفيين والعمال الزراعيين حتى أصبحت لهم الغلبة في هيكل العمالة المهاجرة، وهم يرسلون تحويلاتهم لعائلاتهم بمصر فيغيرون من مركزهم في السلم الاجتماعي.
.
الحراك الاجتماعي والترابط الأسري
رصد أمين في كتابه أيضا سر انقلاب الأبناء على الآباء، محللا تيمة التمرد التي تعاني منها البيوت المصرية منذ سنوات.
برأي أمين، فالأولاد يتمتعون بفرص جديدة لم تكن متاحة للآباء بسبب تفوقهم عليهم في المستوي التعليم واتصالهم ببيئات جديدة لم تتح للأب أو للأم أية فرصة للاتصال بها، لذا اكتسب الأولاد ثقة بقدراتهم على الكسب والترقي الاجتماعي تفقدهم ما كان لديهم من احترام للبيت الذي نشأوا فيه.
كما اقترب من تمرد البنات على محاولة تزويجها بقريب لإدراكها أن بإمكانها الآن عن طريق الزواج تحقيق الصعود في السلم الاجتماعي، أو أن لديها من التعليم أو الخبرة أو المال المكتسب من الهجرة ما يؤهلها لذلك، فتطالب البنت بمزيد من التحرر لا تستستغيه عقلية الأب أو الأم التقليدية.
لغة المصريين.. ريس مكان حضرتك
يبدي أمين انزعاجه من اختفاء الألقاب واستبدالها بألفاظ عصرية، فقد استعير وصف رئيس الجمهورية الذي ارتبط عند الحرفيين بـ«الريس» الذي شاع استخدامه في الإشارة إلى أي رئيس بلاد من الإشارات القديمة مثل يا «حضرة» ويا «أستاذ». ودخلت ألفاظ مثل «طنش وفوت ومشي امورك، وماشي» في القاموس المصري. هذه الألفاظ بالطبع باتت قديمة ومستهكلة في وقتنا الحالي، لكن بالنسبة لأمين فهو انسحاب هوياتي كبير.
هكذا تحررت المرأة
في فصل خاص عن مكانة المرأة في المجتمع، تعجب أمين من الذين لا يريدون الاعتراف بما حققته المرأة المصرية من تحرر وتقدم عقلي ونفسي، وعقد مقارنة بين ابنته وأمه، يقول إن الأولى لها الحرية الآن أن تحضر للماجستير وترعى زوجها وابنها وتعمل من الصباح حتى العصر، ومع ذلك فهي تحافظ على مظهرها وتعتني ببيتها أكثر من أمه، والثانية تكاد تشغل نفسها بالتواجد بالمطبخ.
يؤكد أمين أن الرجل الآن يبحث عن الزوجة التي تعينه على تحمل أعباء الحياة المكلفة، ويكتفي بعدد أقل من الأولاد، غير أنه كان جيل الآباء يشعر باطمئنان أكبر للمستقبل الذي أصبح الآن مقلقا.
حين ميسرة وعبده موته.. كيف فسر أمين هذه الأفلام؟
لك أن تتخيل أن المفكر الاقتصادي الراحل قدم تحليلا وافيا لظاهرة أفلام العشوائيات التي يقدمها محمد رمضان الآن، فقال في كتابه إن فئات أخرى بدأت تتربع على عرش التمثيل في المسرح والسينما والمسلسلات التلفزيونية تنتمي كثرتها إلى الطبقات الشعبية، أثرت ظروف نشأنها على لغة التعبير وأسلوب الحوار ومضمون العمل الفني نفسه، كما تأثر كل هذا باتساع جمهور المشاهدين المنتمين إلى نفس الطبقات الشعبية، فقدم لهم ما يرضيهم وما يستجيب لطموحاتهم
.