الدعارة في القاهرة قبل 100 عام.. «حٌفر ودكاكين» هذه الشوارع تشهد عليها
مرت بيوت الدعارة في مصر بتحولات عديدة ما بين التجريم والتقنين، واختلفت نظرة السلطة الحاكمة لها باختلاف الأوضاع الاجتماعية والسياسية، لكنها في كل الأحوال تركزت في أماكن بعينها ومارست عملها وفق نظم محددة.
في بدايات القرن الثامن عشر حددت مخطوطة «الدرة المصانة في أخبار الكنانة» للمؤلف أحمد الدمرداش أماكن الخواطي في القاهرة، في حارة اليهود، والحسينية، وبولاق، ودار النحاس (التي يحتمل أن تكون دير النحاس) وقصر العيني، وعشش النخل القصير.
حارة اليهود والأزبكية
ويلاحظ الدكتور عبد الوهاب بكر في كتابه «مجتمع القاهرة السري 1900 -1951»، أن أماكن نشاط الخواطي خلال العقد الأول من هذا القرن كانت تشمل مناطق متفرقة لا يجمعها أي صلة ذات مدلول، فهي في أحياء التكدس كحارة اليهود، وبولاق، والحسينية، أو في أماكن يُفترض أنها كانت متطرفة في ذلك الزمان كقصر العيني.
ويذكر عبد الرحمن الجبرتي في «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» منطقة غيط النوبي المجاورة لمنطقة الأزبكية كمكان للبغاء في القاهرة في أواخر القرن الثامن عشر.
وبينما حدد قانون الضبطية الصادر في 1880 أماكن ممارسة البغاء في شارع كلوت بك بالأزبكية، وشارع محمد علي بمنطقة الموسكى وباب الخلق، فإن وثائق الفترة قد حددت مناطق الوسعة بالأزبكية، والجامع الأحمر، والطنبلي، ودرب مصطفى، وبير حمص بمنطقة باب الشعرية، والمواردي بالسيدة زينب، والساقية ببولاق، وحوش الجاموس والتُرب.
ويضيف نيازي حتاتة في دراسته «بوليس الآداب.. تاريخه وعمله ومقوماته» مناطق شارع عماد الدين، وألفي بك، والتوفيقية، وسور الأزبكية، ومنطقة المدرستين، إلى مناطق ممارسة البغاء في القاهرة في القرن العشرين.
حُفر ودكاكين
وبحسب «حتاتة» مثلّت منطقة عرب المحمدي قرب العباسية مكاناً لنوع رخيص من البغاء، كانت محلات الممارسة فيه لا تتجاوز حفرة في الأرض ممهدة للقاء وتُغطى من أعلى بستارة تُثبت ببعض الحجارة من أطرافها بواسطة القواد أو القوادة التي تنتظر حتى يفرغ العميل من مهمته لرفع الحجارة وإزالة الستارة.
واحتوت منطقة «الوسعة» و«وش البركة» في حي كلوت بك بالأزبكية على بيوت من غرفة واحدة أو دكان لممارسة البغاء، على أن نظام الدكان كان أكثر انتشاراً في الوسعة، وباب الشعرية، وكان دكان البغاء يتميز بستارة تغطي بابه ويكتب على جانبيه سعر الممارسة الذي كان يتراوح بين «شلن» و15 قرشاً في العشرينيات.
لكن نشاط البغاء لم يقتصر على الدكاكين ذات الستارة، إنما شمل البيوت ذات الأدوار المتعددة والغرف التي تقع على جانبي ممر بطول الشقة في الدور من البيت. وذكر توماس رسل باشا حكمدار شرطة العاصمة (1918 – 1946) في مذكراته الشهيرة التي حملت عنوان «الخدمة المصرية» وصفاً لبيوت البغاء في «الوسعة» فقال إنها كانت ذات نوافذ مغطاة بقضبان حديدية تجلس خلفها المومسات بوجوههن المصبوغة يعرضن بضاعتهن.
جنود الإحتلال
وخلال الحرب العالمية الثانية انتشرت دكاكين بيع البيرة والمثلجات التي تديرها مومسات قريباً من أماكن تواجد المعسكرات البريطانية حيث يتردد الجنود الأجانب على هذه الدكاكين بدعوى شراء البيرة، لكن أبواب هذه الدكاكين كانت تُغلق بعد دخول العميل ثم تُفتح بعد أن يتم اللقاء.
وتواجدت هذه الدكاكين في منطقة ساحل الغلال بحي روض الفرج حيث كانت توجد بعض الوحدات البريطانية، ووُجدت في المنطقة ذاتها في ذلك الوقت بعض الكازينوهات مثل «ليلاس» و«سان ستيفانو» لتزويد جنود جيش الاحتلال (والمواطنين المصريين فيما بعد) ببعض وسائل الترفيه والمتعة.
وحسبما تذكر أرتيميس كوبر في كتابها «القاهرة في الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945»، كانت القاهرة خلال الحرب العالمية الثانية تحوي 127 ألف جندي في المتوسط، واستدعى الأمر إقامة سبعة مراكز طبية لعلاج الأمراض السرية بين الجنود الأجانب، لذا كان مندوبو السرية الطبية البريطانية يجلسون أمام الطوابق الأرضية للمواخير في حي كلوت بك، حيث يسلمون كل جندي يرغب في «لقاء» واقياً ذكريا وعلبة مرهم وكراسة تعليمات.
لكن إغراء المومسات الجالسات «بمراوحهن على مئات من البلكونات الصغيرة التي تطل على ذلك الشارع الضيق الطويل وهن ينادين على الرجال السائرين» كان أقوى من لوحات التحذير البريطانية، فقد «كانت تقوم على الأرض أكشاك صغيرة كل منها تغطيه ستارة واحدة.. كانت الأكشاك تفضي إلى أزقة تتشعب في البركة وتحوي معارض لاختلاس النظر وكباريهات للمناظر الفاضحة»، بحسب «كوبر».
وعندما صدر الأمر العسكري في عام 1942 و1943، وأُغلقت بمقتضاه منطقة «وش البركة»، لجأت المومسات إلى ممارسة نشاطهن مع الجنود البريطانيين وغيرهم من قوات الاحتلال في المقاعد الخلفية في «عربات الحنطور» التي كانت منتشرة آنذاك في القاهرة.
أجور البغايا
وتفيد الكتابات التي كُتبت عن البغاء في العقد الثاني من القرن العشرين أن أجر المومس في اللقاء كان شلناً (خمسة قروش)، وهناك من يذكر أن سعر اللقاء كان يكتب على مدخل الماخور، وكان يتراوح بين 15 و25 قرشاً.
لكن المعروف أن أجور المومسات عن الاتصال الجنسي بالعملاء خضعت لاعتبارات عديدة أهمها مظهر البغي، ومستوى جمالها، وفئة العملاء الذين يتصلون بها أو الطبقة التي ينتمون إليها، فقد بلغ متوسط الأجور عن اتصال البغي مرة واحدة ما بين 25 إلى أقل من 50 قرشاً، وكان الأجر عند أخريات 75 قرشاً إلى أقل من جنيه، في حين تقاضت بعضهن أكثر من 200 قرشاً عن الاتصال الواحد.
والمسلّم به هو أنه كان هناك بغاء سري تمارسه أعداد كبيرة من المومسات اللاتي فضلن العمل في بيوت غير مرخص بها – كانت تسمى بالبيوت السرية – بالمخالفة للائحة 16 نوفمبر 1905 التي قننت هذه البيوت ووضعت شروطاً لعملها، كما أن هناك من كن يعملن لحسابهن.