بديع خيري شاعر ثورة 19.. حفاظا على وظيفة التدريس تخلى عن الكثير

بديع خيري شاعر ثورة 19.. حفاظا على وظيفة التدريس تخلى عن الكثير

الفن والثورة عاملان متلازمان، فالأول يحرض علي الثانية، ثم يوصفها، ويؤرخ لها لتبقى باقية في أذهان الأجيال التالية. وهذا ما حدث مع ثورة 1919 حين وقف الفن في ظهرها عبر صور عديدة منها الشعراء الذين صاغوا كثيراً من الأغاني التي عبرت عن تلك المرحلة.

وكان بديع خيري واحدا إن لم يكن من أهم شعراء تلك المرحلة الذين أشعلوا ثورة الجماهير بأشعارهم، والتي سرعان ما تحولت إلى أغان تجري على ألسنة المصريين في ثورة 1919، بل وفي كل حشد أو ثورة بعد ذلك، وكان آخرها ثورة 11 يناير 2011 والتي شهدت حضورا لأغانيه بين المتظاهرين في ميدان التحرير.

بديع خيري.. شاعر ثوري على خطى النديم

في حي المغربلين بالقاهرة، ولد بديع عمر خيري في 17 أغسطس 1893، وبدأ حياته مع التعليم في «الكتاب»، حيث حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، مما ساعد على صقل موهبته اللغوية.

وقبل أن ينهي دراسته، بدأ بديع خيري كتابة الزجل في مرحلة مبكرة من حياته، وعندما أنهى دراسته تم تعيينه مدرسًا، إلا أن خيري كانت له اهتمامات فنية أخرى، فبدأ في كتابة المونولوج، ثم أخذه عشق المسرح، فقرر في البدء بكتابة المسرحيات، وقدم أولى مسرحياته تحت عنوان «أما حتة ورطة».

ويروي عمر طاهر في كتابه «صنايعية مصر. مشاهد من حياة بعض بناة مصر في العصر الحديث» أن خيري كان يتحرك في ملاعب الفن وهو مشغول بالبحث عما يخدم قضية أو فكرة ما، ومع اندلاع ثورة 1919 كانت كلماته (قوم يا مصري) هي النشيد القومي للحراك الشعبي.

ويقارن المؤرخون بين دور عبد الله النديم وقت أحمد عرابي ودور خيري وقت سعد زغلول، فكانت أغنياته وقتها محرضة اعتبرها الجميع في كفة بينما بقية أغنياته مع الشيخ سيد درويش في كفة أخري، ومنها «سالمة يا سلامة» و«الحلوة دي» و«خفيف الروح» و«شد الحزام» و«عشان ما نعلا» و«القلل القناوي» و«ماقلتلكش ان الكترة».

اللغة الواقعية والتعبير عن الجمهور 

يُحسب لبديع تحويل لغة السينما والأغاني إلى لغة واقعية حتى أصبحت بالفعل ابنة للشارع والبيوت المصرية. فأثناء تصوير فيلم «العزيمة» الذي كتبه بديع اتصل به منتج الفيلم طلعت حرب وأخبره أنه سيوقف التصوير الفيلم لأن لغة الحوار غير مألوفة والفيلم نفسه لا يشبه الأفلام الأمريكية التي يحبها الجمهور، فقال له بديع خيري بإيجاز: «طب خلينا نجرب نعمل حاجة شبهنا». فكتب خيري بذلك صفحة جديدة في تاريخ السينما المصرية.

لكن إنجازه الحقيقي كان ضعف ما يتمناه أي كاتب في العالم، يود كل كاتب مشتغل بالفن لو أنه يصبح شريكا في تجربة مهمة تؤرخ للتغيير، كان خيري شريكا في تجربتين، الأولي كشاعر مع سيد درويش، والثانية كمؤلف مع نجيب الريحاني، وبخلاف دوره في السينما كان خيري بكتاباته مؤسسا للحظة التي تغير فيها وجه الموسيقي والمسرح في مصر.

الصدفة ونجيب الريحاني

ويمكن القول أن الصدفة لعبت دورا في معرفة نجيب الريحاني ببديع خيري الذي كان يعمل مدرسا، وفي الوقت نفسه أسس مع أصدقائه فرقة مسرحية وكتب لهم أول مسرحية، فنجحت بقوة.

في ذلك الوقت كان الريحاني يسكن في شقة فوق المسرح، ولفت نظره الإقبال، فقرر أن يشاهد العرض وكان بالمصادفة قد افترق عن مؤلف مسرحياته لأن الأخير كان يريد الحصول علي نسبة من الإيرادات.

أعجب الريحاني بالمسرحية، وسأل أحد الموظفين وكان يُدعى «جورج شفتشي» عن مؤلفها، فقال له الموظف كذبا إنه المؤلف، فطلب الريحاني أن يتعاونا معا.

كان خيري لا يضع اسمه علي المسرحية كمؤلف خوفا من أن يفقده ذلك مهنته الأصلية كمدرس. صارح الموظف خيري بما حدث وطلب منه أن يكتب مسرحية للريحاني يقدمها شفتشي باسمه علي أن يتقاسما الأجر، وعلى الفور وافق خيري لأن ذلك سيحقق له هدفين.. من جهة ستتوفر لخيري سيولة ينفق منها علي فرقته، ومن جهة أخرى سيظل محافظا علي مهنته كمدرس.

بعد ثلاث مسرحيات ناجحة قدمها الريحاني من تأليف خيري بينما علي الأفيش أو الملصق الدعائي اسم مؤلف آخر، شك الريحاني في الأمر, فشخص المؤلف لا ينبئ عن كل هذه الموهبة. طلب منه تعديلا فنيا فلم تكن الاستجابة مقنعة. بحث الريحاني في الأمر حتي عرف الحقيقة، فأرسل الريحاني في طلب خيري، ولم يفترقا بعدها في مسرح أو سينما.

صورة متداولة على أنها لنجيب الريحاني وبديع خيري 

مسيحي ومسلم

كان خيري خجولا لا يقدم نفسه للناس أو الوسط ويكتفي بأن يغلق علي نفسه الباب ليكتب، لدرجة أن معظم الناس استنتجوا من اسمه أنه مسيحي الديانة، فكانت الجمعيات الخيرية المسيحية ترسل له تطالبه بالتبرع للأيتام لكن لم يتأخر ولم يصحح المعلومة وكان يقول: كلهم أيتام. 

لم يكن مهتما إلا بالفن ولو علي حساب حقوقه الأدبية. عندما جمعه أحد الأصدقاء بسيد درويش لأول مرة اعترف له الشيخ سيد أنه توقف عند زجل منشور في إحدى المجلات يحمل اسم خيري فقام بتلحينه وقدم به أغنية حققت نجاحا كبيراً «دنجا دنجا»، كان كلام الشيخ سيد علي سبيل الاعتذار أو ربما بحثاً عن حقوق الشاعر، إلا أن خيري قال له إن المهم أنها وصلت إلي الناس، ثم بدأت رحلتهما معا.

وفي فيلم (غزل البنات) الذي كتبه خيري، أصر الريحاني أن تكون الأغنيات التي سيغنيها بنفسه من تأليف خيري، بينما أصر محمد عبد الوهاب ألا يكون هناك اسم لشاعر علي الفيلم غير حسين السيد، وتفاديا لخناقة فنية، كتب خيري أغنيات الريحاني وقدمها له هدية طالبا عدم ذكر اسمه، كان خيري مهتما بالنجاح حتي لو تم تسجيل «أبجد هوز» و«عيني بترف» في رصيد شاعر آخر علي تترات الفيلم.


 

حسن ومرقص وكوهين

وخلف مسرحية ثم فيلم «حسن ومرقص وكوهين» تقف قصة. يحكي خيري في مذاكراته قائلا: كنا أنا والريحاني نعود ذات يوم مريضا من أصدقائنا بأحد المستشفيات، واسترعي نظرنا في الطريق لافتة فوق أحد المتاجر «مستودع الأمانة لصاحبه ل. ابسخرون وص. عثمان».

استوقفت التركيبة خيري الذي رأى في شراكة «ابسخرون» و«عثمان» دليلاً علي أن التعايش اليومي بمعزل تماما عن فوارق الأديان، ثم قال للريحاني: ألن يلفت أنظار الناس مسرحية اجتماعية نعالج فيها تلك فكرة أن العمل هو الذي يوفق بين مختلف المعتقدات في سبيل التآخي من أجل العيش، تعالي نوثق تعايشنا للتاريخ قبل أن يضيع.

رحل سيد درويش، ثم رحل الريحاني، ثم أصيب خيري بالسكر وتدهورت حالته حتى قرر الأطباء بتر أصابع قدميه العشرة، وعلي كرسي متحرك كان يراقب مأساة زوجته وهي تفقد بصرها بالتدريج حتى رحلت، ثم سقط ابنه عادل مريضا.

كان عادل يصارع الموت في المستشفي, ونزع خيري سلك تليفون البيت حتى لا ينقل إليه أحد الخبر المشئوم, ثم فتح التليفزيون فوجده يذيع خبر الوفاة في نهاية النشرة.

المصدر

  • كتاب «صنايعية مصر. مشاهد من حياة بعض بناة مصر في العصر الحديث». عمر طاهر.

محمد أحمد

محمد أحمد

صحفي يكتب في التراث والثقافة الشعبية