ما الأهمية الأدبية والواقعية لمسلسل صراع العروش؟ بعيدًا عن التنانين والسحر والعُري
عادة ما يواجه المسلسل الشهير «صراع العروش Game of thrones» نقدًا لاذعًا ومباشرًا، لما فيه من مشاهد عديدة تمتلئ بالدموية والوحشية من جهة، أو العلاقات الجنسية الصريحة خاصة الشاذ منها والمُحرم.
بقدر ما يبدو هذا الاتهام منطقيًا، يتساءل المرء عن القيمة الحقيقية والأدبية لهذا العمل الملحمي الذي يضم 5 كتب ضخمة في الأصل تحت عنوان «أغنية الجليد والنار» ، كتبها الروائي الأمريكي المعاصر جورج مارتن، وما زال يعمل على كتابين أخيرين لينهي السباعية بخلاف كُتب أخرى عديدة متصلة بالسلسلة.
الرواية والمسلسل المأخوذ عنها للشاشة، هل لهما أي ثقل فني في العموم أم يقفان عاجزين أمام الاتهام الشهير والمستمر؟ ماذا لو حذفنا المشاهد العنيفة والجنسية.. أيبقى منهما شيء ذو قيمة؟ هنا نحاول الإجابة بحيادية في هذا التقرير.
فانتازيا ولكن.. ملحمية
تدور أحداث المسلسل في عالم آخر غير عالمنا، له قاراته المختلفة وأراضيه المتخيلة، بل وله تاريخه الكامل الذي قد يملأ مكتبة ضخمة أخرى، ولم يكن المؤلف أول من فعل هذا الأمر، فقد سار على نهج العديد من أدباء الفانتازيا الملحمية قبله وأشهرهم «جون رونالد تولكين».
«تولكين» الأديب البريطاني الشهير الذي ملأ الأسماع والأبصار بملحمته «سيد الخواتم» حتى أن مصطلح «عوالم تولكينية» اشتق من اسمه ليشمل الأعمال الشبيهة، والتي تسمح بخيال لا حدود له وحرية كاملة لكاتب العمل في الأماكن والمخلوقات والشخصيات، ولكن ما الذي أضافه جورج مارتن مؤلف صراع العروش ليجدد عما عرفه الجمهور مع عالم تولكين؟
من التاريخ الحقيقي
الأعمال الفانتازية الخيالية عادة ما تأتي من الأساطير وخرافات الشعوب، فالتنين مثلاً في الأصل أسطورة عرفتها أغلب شعوب الأرض، وكذلك العنقاء والأحصنة الطائرة وخلافه، فالأساطير وحكايات الأجداد معين لا ينضب من الخيال الخلاق الذي يروق للعالم كله وليس لبلد واحد.
جورج مارتن مؤلف صراع العروش لم يفعل مثل أستاذه «تولكين» ويستقي عمله من الأساطير، بل اتجه إلى التاريخ الحي نفسه، متناولاً فترة شرسة وثرية مرت على البلاط الملكي الإنجليزي في القرن الخامس عشر، اندلع فيها الصراع بين عائلتي «لانكستر» و«يورك» على عرش إنجلترا فيما يُعرف بحرب الوردتين.
من هذه النقطة ابتكر المؤلف عائلة «لانستر» بدلاً من «لانكستر» و«ستارك» بدلاً من «يورك» ليجعل ملحمته محاكاة أدبية للتاريخ الإنساني بكل ما فيه من خير وشر، فأضاف قبائل تحاكي المغول الغزاة الرحالة وأطلق عليهم «الدوثراكي» وجعل الحوادث الحقيقية تجري في روايته بنفس شكلها التاريخي، كل حادثة في المسلسل لها شبيهها الحقيقي تقريبًا.
هذا التجديد اقتضى إضافة الحروب الدامية والمشاهد الجنسية بالرواية على سبيل الصدق كما وردت في كتب التاريخ، وإن كان المسلسل قد تفاوت في شدة تجسديها من موسم لآخر، فالعلاقات المحرمة مثلاً مثل زواج الأخوة حصلت بالفعل عند ملوك كثيرين ومنهم الفراعنة أنفسهم للحفاظ على «الدم الملكي».
من أجل هذه الواقعية في كتابته، لم يرغب جورج مارتن في البداية أن يضيف التنانين لقصته كوحوش أسطورية، لكن إحدى صديقاته أقنعته بفعل هذا بشكل مختلف، فالتنين لم يعد وحشًا يحرس كنزًا أو يواجه فارسًا يريد إنقاذ الأميرة، بل أصبح سلاحًا عسكريًا في يد إحدى البطلات وكأنه طائرة عملاقة قاذفة للنيران بمقاييس عصر المسلسل.
شخصيات بلا تسطيح
يرسخ الناقد والكاتب الإنجليزي أ.م.فورستر في كتابه «أركان القصة» نظرة النقد للشخصيات، ويقسمها إلى نوعين: الأول أن تكون «مُسطحة ذات بُعد واحد» أو «مستديرة ذات أبعاد» وهذا ما راعاه مؤلف صراع العروش جيدًا، فقد عاب على أستاذه «تولكين» تسطيح أغلب شخصياته وجعلهم لونًا واحدًا: خير فقط أو شر فقط، وإظهار أبطال الخير في شدة الوسامة بينما الشر قبيح مقرف منفر.
جدد جورج مارتن هذه النقطة أيضًا فجعل جميع شخصياته تقريبًا متقلبون، يمتازون بعيوب مؤثرة قبل المحاسن، ويتطورون مع سير الأحداث إلى الأفضل أو الأسوأ، بل جعل تغير حالة البطل منهم تحير المتفرج والقارئ أحيانًا، حين يجد نفسه كارهًا لشخصية ما ثم يعشقها مع الوقت.
هذا العمق الإنساني يروق للنقاد دائمًا، فالقصة صارت واقعية والبشر فيها مثل الحقيقة وليسوا مجرد «قوالب» كالشاطر حسن الطيب وسندريلا الجميلة النقية فقط، وكي يؤكد جورج مارتن على هذه الفكرة جعل الأبطال الوسيمين منهم الأشرار والقساة، فالشر في الواقع لا يكون قبيح المظهر دائمًا.
الحبكات غير المتوقعة
يقضي جورج مارتن وقتًا كبيرًا في الكتابة بالنسبة لغيره من المؤلفين، ويقول عن هذا ساخرًا إن الوقت الذي يستغرقه في كتابة ثلاثة فصول يكفي لكاتب آخر حتى ينجز ثلاثة كتب منفصلة، والحقيقة أن القراء ينتظرون الجزء السادس من ملحمته الروائية منذ عام 2011.
اهتمام «مارتن» بالتفاصيل الشديدة من جهة ورغبته في مفاجأة القارئ من جهة أخرى يجعلان كتابته بسرعة السلحفاة، لكن نتيجة هذا الأسلوب كانت طفرة كبيرة في السرد الروائي التقليدي، فقد صارت صراع العروش جرعة ضخمة من المنحنيات والمفاجآت لقارئها، كل بطل مُعرض للموت في أي لحظة.
النقطة الأبرز في هذا الأسلوب كانت رحيل شخصيات الملحمة المهمة بسرعة، الشيء الذي لن يتوقعه قارئ أي قصة بسهولة، ورغم أن المخرج الشهير ألفريد هيتشكوك فعلها سنة 1960 وقتل بطلة فيلمه «سايكو» مبكرًا للغاية في تجديد مبتكر وقتها، إلا أن مؤلف صراع العروش قتل أبطاله بوفرة لم يعرفها المشاهد والقارئ قبله.
مع عرض الموسم الثامن ينتظر المشاهدون الحبكة الأخيرة بفارغ الصبر، كي يعرفوا من سيفوز بالعرش، فضلاً عن اختلافهم على أحقيته نفسها، فهل العرش لأحفاد الملك الحقيقي أم لمن حاربه وهزمه؟ وكأن المسلسل يناقش حبكة أخرى كبيرة تتكرر في كل عصر ومكان.