قصة نهر النيل من بدء التكوين حتى الآن.. حركات أرضية وبراكين ساهمت في استقراره بمصر
تاريخ طويل من التغيرات الطبيعية الاستثنائية يقف وراء وصول نهر النيل إلى شكله الحالي، فما بين الحركات الأرضية والنشاطات البركانية والعصور المطيرة وجفاف البحر المتوسط شق النيل طريقه إلى مصر ليشكل هويتها ويصنع حضارتها. الدكتور رشدي سعيد روى قصة التكوين في كتابه «نهر النيل.. نشأته واستخدام مياهه في الماضي والمستقبل».
نهر مركب
يعتبر النيل الحديث بمنابعه في هضبة البحيرات والمرتفعات الأثيوبية نهراً مركباً تكوّن نتيجة اتصال عدد من الأحواض المستقلة بعضها عن بعض بأنهار نشأت خلال العصر المطير الذي تلا تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير منذ ما يقرب من عشرة آلاف عام قبل الآن، لذا فإن نهر النيل هو وليد تلك الفترة المطيرة في تاريخ الأرض.
وكان النيل قبل تلك الفترة يتكون من عدد من الأحواض التي شكلت بحيرات داخلية غير متصلة بعضها بالبعض، وكانت هذه الأحواض تفيض فوق جوانبها وتتصل بما جاورها من أحواض في العصور المطيرة، وتتقلص في مساحتها حتى تجف كلية أو تنكمش إلى مستنقعات متفرقة عندما يسود الجفاف الأرض. ومن هنا ظهر المقطع الطولي لنهر النيل الحديث الذي جاء كامتدادات رُبطت بأنهار ذات انحدارات ساهمت في وصوله إلى مصر.
لكن قبل هذه الفترة كانت هناك ستة ملايين من السنين تشكل فيها نهر النيل بتطورات مناخية كبيرة أثرت على العالم كله، ففي هذه الفترة امتدت ثم عادت فانكمشت مثالج القطبين والجبال وغطت الثلوج أجزاء كبيرة من سطح الأرض لعدة مرات، وصاحب هذا الامتداد والانكماش تغيرات كبيرة في درجة الحرارة والضغط الجوي وكمية الأمطار وتوزيعها وكذلك منسوب سطح البحر، وتركت كل هذه التغيرات أثرها على تاريخ نهر النيل.
كما شهدت الملايين الستة من السنين حركات أرضية هائلة ونشاطاً بركانياً كبيراً أثّر بشكل أساسي على منطقة منابع النيل، فأعيد خلال هذه الفترة تشكيل الاخدود الأفريقي الكبير ورفعت الجبال من حوله، فتغيرت مجرى الأنهار التي كانت تنبع من الهضبة الاستوائية والمرتفعات الأثيوبية لكي تصل إلى وادي النيل.
وكانت هذه الأنهار قبل الحركات الأرضية تتجه نحو حوض الكونغو فالمحيط الأطلنطي أو إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي على التوالي.
كما كان للنشاط البركاني أثره على مجاري التصريف فوق هذه الجبال، فكثيراً ما حولت الطفوح البركانية التي كانت تخرج إلى السطح مجاري الأنهار، ومن ثم فإن مجرى أنهار مرتفعات الأثيوبية قد حددته هذه الطفوح التي تغطي هذه المرتفعات بسمك كبير.
وقد مر زمن طويل بعد أن تحول تصريف المياه إلى حوض نهر لنيل لكي تصل هذه المياه إلى مصر فالبحر الأبيض المتوسط، فقد كان على هذه المياه أن تخترق هضبة النوبة، وكانت تلك الهضبة عندما تحولت المياه إلى حوض النيل أكثر ارتفاعاً مما هي الآن، ومثلّت حاجزاً هائلاً للمياه التي تكونت في أحواض الجنوب، ولا يسع الناظر إلى نيل النوبة الحديث إلا أن يرى أن هذا النهر لا يزال يصارع الأرض التي يمر عليها، فلا يزال مجراه الذي يجري في تأرجحات كبيرة مليئاً بالشلالات والمضايق والعقبات.
أسوان.. جزر ومحميات كأن غابات أفريقيا على شط النيل
حفر مجرى النيل
غير أن حفر مجرى النيل بمصر جاء نتيجة ظروف فريدة وغير عادية تسببت في تجفيف حوض البحر الأبيض المتوسط وتحويله إلى صحراء جرداء منذ حوالي ستة ملايين سنة، وذلك بسبب ارتفاع مضيق جبل طارق المكان الوحيد الذي تصل منه مياه المحيط الهادي إليه.
فلما امتنع وصول المياه المتجددة إلى البحر الأبيض انقلب إلى بحيرة أخذت مياهها في التبخر حتى جفت، وتراوح عمق هذا الحوض الجاف بين ثلاثة وأربعة كيلومترات، ما أرغم الأنهار القليلة التي كانت تصب فيه على تعميق مجراها إلى هذا العمق. وهذا ما حدث مع النيل الذي تعمق مجراه إلى حوالي أربعة كيلو مترات في الشمال، وشكّل هذا النهر الذي عُرف في ذلك الوقت بـ«فجر النيل» أو «الأيونيل» خانقاً عظيماً (مكان يمر منه الماء).
لكن هذا الخانق غُرق بماء البحر المتوسط بعد ذلك عندما عاد وامتلأ البحر بالماء منذ حوالي خمسة ملايين وأربعمائة ألف عام، وأصبح الخانق خليجاً بحرياً لأكثر من مليونين من السنوات، تلقى بعدها نهراً هائلاً سُمى بـ«النيل القديم» أو «الباليونيل»، وفي هذه الأثناء امتلأ الخانق بالرواسب.
ويبدو أن كلا النهرين «الأيونيل» و«البالونيل» كانا ينبعان محلياً من هضاب مصر والنوبة، ولم يكن لها اتصال بإفريقيا، وقد انتهت هذه الفترة من تاريخ النيل منذ حوالي مليونين من السنوات.
الحدث الأكبر
وقد مرت فترة طويلة قبل أن يقيم النهر المصري اتصالاً بأفريقيا الاستوائية، فمنذ حوالي 800 ألف سنة وقع الحدث الكبير وجاء النهر الذي وصل من أفريقيا والذي يسمى بـ«نهر ما قبل النيل» أو «برينايل» من منطقة منابع النيل الحديثة التي كانت تغيرت تضاريسها لكي تقارب شكلها الحديث، فتحول تصريف أنهارها إلى حوض النيل وفي تلك الأثناء وُلدت بحيرى تانا بأثيوبيا وفيكتوريا بالهضبة الاستوائية.
وحملت مياه هذا النهر كميات هائلة من الرمل والحصى التي رسبها في سهله الفيضي ودلتاه اللذين كانا أكبر مساحة من سهل النيل الحديث ودلتاه، وشكل ذلك عنصراً مهماً في المظهر الطبيعي لمصر الحديثة.
وبعد أن توقف نهر ما قبل النيل من حوالي 400 ألف سنة، وصل إلى مصر نهر أقل قدرة سُمى بـ«النيو نيل»، وكان اتصاله بأفريقيا ضعيفاً، فكثيراً ما انقطع اتصاله بها وفي كل مرة عاد فيها هذا الاتصال كان النهر أقل تصرفاً وأقل عمراً من نهر ما قبل النيل. ورغم ذلك، فلنهر «النيونيل» الذي يمتد حتى وقتنا الحاضر أهمية خاصة، فقد شهد ظهور الإنسان في مصر مع بدء هذا النهر.
ومنذ حوالي 10 آلاف سنة قبل الآن زادت أمطار الهضبة الأثيوبية بل ومنطقة الساحل الأفريقي كلها، كما امتدت جبهة المطر شمالاً فغطت شمال السودان وجنوب مصر، وظلت هذه المناطق ممطرة لمدة 4500 سنة بعد ذلك.
وبوصول المياه وبغزارة من مصدرين، وهما المرتفعات الأثيوبية وهضبة البحيرات جاء مولد النيل الحديث الذي أصبح مستديماً بعد أن كان موسمياً، وقد زادت أمطار شمال السودان وجنوب مصر من مياه هذا النهر في فترته الأولى والتي كان منسوب البحر فيها منخفضاً، فساعدت في إزالة العقبات التي كانت تعترض النهر قبل ذلك.
وعندما تراجع الجليد وارتفع منسوب النهر، بدأ النهر في ترسيب الرواسب التي كان يحملها في واديه ودلتاه منذ ما بين 8000 و7000 آلاف عام، فتكونت بذلك أرض مصر الخصبة، وقد دفعت عملية الترسيب هذه المؤرخ اليوناني هيردويت لأن يصف مصر بأنها «هبة النيل».