هكذا احتفل المصريون بالنيل بعد الفتح الإسلامي.. مواكب سلطانية وموائد لحوم ممتدة ونثر الفضة على العوام
لم يقف الفتح الإسلامي عائقاً أمام احتفال المصريين بعيد وفاء النيل، لما يمثله لديهم من سبب جوهري في بقائهم على قيد الحياة وحمايتهم من الجدب والقافة، فاستمروا على الاحتفاء به وإن اختلفت بعض الطقوس.
نقطة إلهية
وبحسب أنطون زكري في كتابه «النيل في عهد الفراعنة والعرب»، كان من عقيدة المصريين في عهد الفراعنة أن دمعة المعبودة إيزيس تنزل في النيل وتسبب فيضانه، فبقيت هذه العقيدة إلى العصر المسيحي، وظن الأقباط أن النيل يفيض بنقطة إلهية تنزل من السماء، وقبل انقلاب الشمس في الصيف بأربعة أيام أي في اليوم الحادي عشر من شهر بؤونه كان الأقباط يحتفلون بعيد النقطة السماوية التي تطهر الهواء وترفع الطاعون عن الأرض.
ويقول البعض إن جبرائيل رئيس الملائكة يصلي قبل ذلك بثلاثة أيام ويدعو ربه حتى تفيض مياه النيل وينزل إلى الأرض المطر والندى، ويحمل في يديه سيفاً لطرد الشيطان، وإليه فيما يقولون يرجع فضل نزول النقطة الإلهية.
ومتى حان نزول النقطة يتوالى الفيضان ويرتفع إلى درجته المعلومة، ويُنادى في الشوارع بذلك، فيهنئ الناس بعضهم البعض بحلول موسم النيل كالتهاني المألوفة في الأعياد السنوية.
بعد ذلك يأتي عيد زواج النيل والاحتفال بقطع الخليج، والقول بزواج الخليج مبنيُ على قصة خرافية تقوم على إلقاء فتاة في النيل، لكن الحال تغير في العصر الإسلامي واستبدل بالفتاة تمثال من الخشب يُحلى بملابس.
وكان الموكب يتألف من حاكم البلد وطوائف عديدة من الأقباط والعلماء والاعيان ورجال الدين والبطرك وفريق من رجال الاكليروس وتتبعهم الموسيقى وخلفها الجماهير يصفقون ويترنمون بالأناشيد، ثم يلقون العروس في النيل وقت فتح الخليج.
سماط كبير
وفي العصر المملوكي، كان بلوغ النيل ستة عشر ذراعاً بشيراً بوفاء النيل، وإيذاناً ببدء ذلك المهرجان الضخم للاحتفال بهذه المناسبة التي يشارك الجميع في إحيائها باعتبارها عيداً قومياً ابتداء بالسلطان وانتهاء بالعامة. حسبما ذكر الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه «النيل والمجتمع المصري في عهد سلاطين المماليك».
وتكون ليلة الاحتفال من الليالي العظيمة بمصر والقاهرة، يوقد فيها الأهالي القناديل والشموع ويتحول ليل القاهرة إلى نور من كثرة الأضواء، ويحضر كبار الأمراء ومعهم الاستادار (أمير كان يشرف على بيوت السلطان) بالخلع التي توزع عادة على الأمراء في هذه المناسبة، ويحضر مقرئو القرآن الكريم حيث يبيتون بدار مقياس النيل ويتناوبون القراءة طوال الليل، كما يحضر المغنون الذين يغنون لمن يكون موجوداً.
وفي صباح اليوم التالي يُنظم سماط (مائدة كبيرة) حافل بالشواء والحلوى والفاكهة ويحضره السلطان أو غيره ممن يقوم مقامه ويتخاطف العامة السماط.
وفي بعض الأحيان كان يُجبى من أهل مصر والقاهرة ثمن الحلوى والفاكهة والسماط الذي يمد في دار المقياس يوم الاحتفال بوفاء النيل، ولكن السلطان منصور بن قلاوون أبطل ذلك وجعل مصروفه من بيت المال.
وبانتهاء السماط يبدأ الاحتفال بوفاء النيل بنزول السلطان من قلعة الجبل ومعه قادة الجيوش والأعيان وخواص دولته في الشوارع التي تكون مزينة بسائر أنواع الزينات إلى درا المقياس، حيث يفرق الخلع على الأمراء ثم ينزل إلى النيل وخلفه الأمراء حتى يصل إلى السد الترابي عند منطقة فم الخليج، فيمسك بمعول من الذهب الخالص ويضرب السد ثلاث ضربات، ثم يأتي جمع غفير من الناس بفؤوسهم فيحفرون هذا السد حتى يجري الماء في الخليج ثم ينصرف السلطان إلى القلعة.
وظلت مظاهر الفخامة والأبهة والعظمة تحيط باحتفالات وفاء النيل حتى أواخر عصر سلاطين المماليك، ففي 905 توجه الأمير طومان لفتح السد وفرق على جماهير المتفرجين الحلوى والفاكهة ونثر لعوام الفضة عند السد. وشهد عام 922 آخر احتفالات المماليك بوفاء النيل بحضور الأمير طومان باي نائب السلطان آنذاك في احتفال ضخم رغم الحرب الدائرة ضد العثمانيين آنذاك.
وكان الاحتفال بهذه المناسبة يتم أثناء النهار، وقد ربط بعض مفسري القرآن الكريم بين قوله تعالى إخباراً عن فرعون «قال موعدكم يوم الزينة، وأن يُحشر الناس ضُحى»، وبين الاحتفال بوفاء النيل على أساس اجتماع الناس للاحتفال وقت الضحى.
وحين يبلغ نهر النيل علامة الوفاء، كانت تُكتب البشائر بذلك من ديوان الإنشاء، وترسل إلى سائر البلاد لتطمئن قلوب العباد ولتكون بمثابة إشعار باستحقاق الخراج.
إصبع القديس
ولم تكن احتفالات وفاء النيل هي المظهر الاحتفالي الوحيد المرتبط بالنيل، بل وُجدت أعياد ومظاهر اجتماعية أخرى ارتبطت بالنهر ارتباطاً مباشراً، من ذلك «عيد الشهيد » الذي كان يحتفل به المسيحيون.
وكان هذا العيد عيداً دينياً وقومياً في آن واحد، وكان يقام سنوياً في اليوم الثامن من شهر بشنس القبطي، وكان الاحتفال به مهرجاناً كبيراً يقام على ساحل شبرا، والسبب في إقامته يرجع إلى ما كان يزعمه الأقباط من أن النهر لم يكن ليزيد إلا بعد غسل إصبع أحد القديسين في مائه، وكان هذا الإصبع يُحفظ في تابوت بكنيسة بشبرا.
وفي هذا العيد يتوافد الأقباط من شتى أنحاء البلاد، كما يخرج أهل مصر والقاهرة على اختلاف طبقاتهم وديانتهم إلى شبرا لحضور هذا المهرجان الضخم، حيث تنصب الخيام بأعداد هائلة على ساحل النيل وفوق الجزر، ويجتمع الفرسان بخيولهم يرقصون على إيقاعات الطبول وأنغام الزمور.
وكانت الاحتفالات بهذا العيد تمتد أحياناً على يومين بثلاث ليال، وتصحبها مظاهر الفساد والانحلال والفوضى، وتُرتكب المعاصي جهراً، وتثور الفتن وتقع حوادث القتل، وكان فلاحو شبرا يعتمدون على مبيعاتهم من الخمور في هذا العيد للوفاء بما عليهم من الخراج، مما يبين مقدار ما كان يراق من الخمور في هذا العيد. وكان ذلك سبباً في إبطال هذا العيد عام 755هـ.
عيد النيروز
ثمة عيد آخر كان قبط مصر يحتفلون به في أول شهر توت القبطي وهو «عيد النيروز»، والذي كان متوارثاً عن قدماء المصريين الذين جعلوه في هذا الوقت تكريماً للنهر بتمام مياهه، وفي هذا اليوم كانت تُعطل أسواق القاهرة.
وقد شارك المسلمون إخوانهم المسيحيين في الاحتفال بهذا العيد، فكانوا يصنعون بعض الحلوى ليفرقوها صباح يوم العيد على الأقارب والأحباب. وكان من عادة القبط في هذا اليوم إيقاد النيران والتراش بالماء في الشوارع والطرقات وفوق مياه النهر وسائر أماكن التنزه.
احتفال العثمانيين
وبعد دخولهم مصر، احتفل التُرك بعيد وفاء النيل رسمياً، ومتى انتهى الاحتفال كانت الجماهير تلقي في النيل الحبوب والثمار والسكر والخبز والدراهم ويغتسل الأطفال في مياه النيل، وبعض الناس يغتسلون أيضاً بأول ماء يمر في الخليج طلباً للشفاء وعلاج العقم.
وكان من المتبع قبل اليوم المحدد لجعله يوم وفاء النيل أن يضعوا في مصر القديمة تمثالين كبيرين عليهما أنوار مركبة على منصة من الخشب مسندة على مراكب، وهذان التمثالان رجلاً وامرأة ويسميان العروسان، وكان من عادتهم صنع عروس أخرى من الطين ويلقونها في النيل يوم الفيضان.